يُقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون. والصحيح ان المهزومين يكتبون أيضًا التاريخ نفسه. كل منهما يكتب روايته عن الصراع والأحداث. الروس كتبوا روايتهم عن الهزيمة والانتصار، مرة مع نابليون وأخرى مع هتلر. الألمان كتبوا روايتهم الحزينة عن هزيمتهم في روسيا، لكنهم كتبوا قصة صمودهم في الحرب في مواجهة الحلفاء، تماما كما فعل اليابانيون في مواجهة الأمريكان، فهم برغم هزيمتهم كتبوا قصة صمودهم ومأساتهم في الحرب القاسية. الأمريكيون كتبوا هم أيضًا روايتهم الحزينة عن هزيمتهم في مواجهة الفيتناميين، كما نسجوا أساطير عن صمود جنودهم في الأدغال والمستنقعات. الأمم في التاريخ كله تفعل ذلك. في النهاية لدى كل أمة في هذا العالم رواية واحدة منسجمة، متناغمة، لا أثر فيها لأي مزاعم، فالنصر والهزيمة قصة واحدة مترعة بالألم والمأساة. إن العالم العربي هو الجماعة الوحيدة التي لا تملك رواية واحدة، لا عن انتصارها ولا هزيمتها. ليس لدينا (تاريخ) موحد عن حروب العرب مع جيرانهم من الأمم القديمة. حتى في التاريخ الحديث، لدينا قصتان متناقضتان. مثلا: في الصراع مع العثمانيين لدينا روايتان، احداهما في شمال أفريقيا، وأخرى في المشرق العربي. إنهما روايتان متناقضتان؟ هذا في صراعاتنا مع الخارج. أما في صراعاتنا الداخلية، فقد هيمنت في مجتمعاتنا روايتان (أو سرديّان للتاريخ الديني) كل منهما تزعم الانتصار نفسه. ولأن لكل فريق حلفاء في الإقليم، فقد غدا الانقسام ذا بُعد سياسي- إقليمي، ولم يعد مجرد صراع بين روايتين محليتين؟ ولأجل ذلك وبسببه فنحن أمة تعيش الصراع بين روايتين متناقضتين لتاريخها.
لا أحد يعترف بالآلام والمآسي والأهوال التي تجلبها قصة النصر كما تجلبها قصة الهزيمة. كل طرف يكتب روايته مبتهجًا بلمعان انتصاره. حتى المهزوم، يصوّر هزيمته قصة بطولة وصمود وانتصار. بسبب ذلك أيضًا، يبدو تاريخنا العربي وكأنه تاريخ مؤلف من قصتين متناقضتين منفصلتين، كل منهما تروي التاريخ نفسه، ولكن من دون أي التزام بالنزاهة في سرد الأحداث والوقائع. فهل نصدّق رواية المنتصر أم رواية المهزوم؟ إن الانقسام الحاصل في مجتمعاتنا العربية ليس ناجمًا عن (خلافات) ذات طابع يتصل بالهُويات المذهبية والطائفية والدينية والثقافية وحسب؛ بل عن نوع معقّد من الانقسام الذي يتعلق بوجود هاتين الروايتين، اي السرديتين المتصارعتين داخل حقل التاريخ. إن المجتمع العربي المعاصر، هو اليوم، ميدان نموذجي لهذا النوع من الصراعات التي يواصل فيها المتحاربون حروبهم، ويقومون بنقلها من حقل التاريخ إلى حقل الواقع.
لم يعد المنتصر يكتفي بإشهار انتصاره في كل مناسبة أو من دونها، كما لم يعد المهزوم قادرًا على الاعتراف تحت أي ظرف بوجود قصة هزيمة؟ على العكس من ذلك، هو يواصل سرد الدلائل على (الحق) و(الانتصار). ما السبيل إلى الخروج من هذا المأزق؟ إن سلوك الدولة الحديثة إزاء مواطنيها، هو وحده الذي يمكن أن يقدّم المساعدة المطلوبة. لقد تصرفت أوروبا الحديثة حيال مواطنيها الكاثوليك والبروتستانت، كقارئ نزيه للتاريخ يتحاكم عنده طرفان من المجتمع، كل منهما لديه روايته، ولكن بوصفهما طرفين لكل منهما شطر من قصة الانتصار وشطر من قصة الهزيمة. لا احد لديه قصة الانتصار وحدها أو الهزيمة وحدها. وبذلك احتكرت الحق في تدوين (التاريخ الرسمي) وتمكنت من إنشاء سردية تاريخية واحدة متكاملة للتاريخ الأوروبي.
وتلاشى بذلك من تاريخ أوروبا وإلى الأبد، أي أثر لروايتين (مذهبيتين أو دينيتين). هذا ما فعلته الولاياتالمتحدةالأمريكية من قبل، حين احتكرت (الحق في تدوين التاريخ الرسمي) لحرب الاستقلال التي قسمت الأمريكيين إلى شماليين وجنوبيين ثم وحّدت الوجدان الجمعي لكل مواطنيها من حول قصة واحدة فيها البطولة والألم، الانتصار والهزيمة.
يعتقد بعضهم ويا للأسف أن ميدان التاريخ هو (ميدان ترف) لا معنى له. وهذا غير صحيح. إن الأمة، أية أمة، لا يمكنها البقاء في المسرح إلا إذا امتلكت سردية تاريخية واحدة توحّد وجدان مواطنيها، بينما الأمم التي تتلاشى من عن المسرح، هي الأمم التي تعيش صراعا لا نهاية له بين روايتين، يتوحد وجدان المواطنين فيها من حول روايتين منفصلتين ومتصارعتين. وكما أن اللغة هي العامل الحاسم في وجود الأمم؛ فإن التاريخ الموحّد هو المحرّك الجبار الذي يقودها إلى الأمام.