“إنّ الهدف من هذا البرنامج هو أن نجعل قواتنا حاضرة ومُنتشرة، ومُشتبكة في كلّ مسارح القتال لمساعدتها على تشكيل المسارح، وتثبيتها بغية تنفيذ وضمان إستراتيجية أمننا القومي!” الجنرال راي أوديرنو، Gen. Ray Odierno. نشرت صحيفة الوول ستريت جورنال، The Wall Street Journal، تقريرا يكشف، نقلا عن مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية، أنّ البنتاغون بصدد إجراء “مباحثات مع دول في شمال أفريقيا” لم يحدّدها بالإسم، وذلك لنشر طائرات دون طيار، Drones، في قاعدة تُخصّص لها بغية “تشديد المراقبة على تنظيم الدولة” المتمدّد في ليبيا!
المسؤولون الأمريكيون، كما يوضح التقرير، أكّدوا أنّ إنشاء هذه القاعدة سيساهم ليس فقط في التصدّي لهذا التنظيم الذي يعلن الولاية تلو الأخرى على مرأى ومسمع من هذا “التحالف الدولي”، بل “سيسدّ النقص في القدرة على فهم ما يجري”، في المنطقة! تماما كما شدّدوا على أنه “من المرجّح”، أن “أي منشأة من هذا القبيل ستكون قاعدة موجودة تحت سيطرة الدولة المضيفة مع حصول الولاياتالمتحدة على إذن بوضع طائرات بلا طيار هناك إلى جانب عدد محدود من العسكريين”!
هكذا! وبعد كل المؤتمرات الدولية وهذه القمم والاجتماعات التي يحضرها رؤساء الدول ورجالات العسكرية وموظفو أغلب وكالات الإستخبارات الأمركية والغربية والعربية، وبعد دراسات واستراتيجيات الخبراء والمراكز البحثية، Think Tanks، تزعم وزارة الدفاع الأمريكية أنها بحاجة إلى سدّ نقص في الفهم لما يحدث!! أما عن القاعدة المنشودة، وبعد الفراغ من تهيئة المسارح النازفة والمتشظية، فيبشّرنا المسؤولون الأمريكيون بأنها ستكون تحت تصرّف الدولة “المضيفة”! بل وستكتفي وزارة الدفاع الأمريكية فقط ب”طلب الإذن” دون أن نغفل “حرجها” من ضرورة نشرها لقوات عمليات خاصة!! سرب الطائرات بدون طيار الذي سيقلع من القاعدة المنشودة، كما يُراد لنا أن نقنع، لن يُستخدم في شنّ غاراته لضرب أهداف تابعة لتنظيم الدولة في ليبيا، بل سيكون أيضا أداة ونقطة انطلاق لتنفيذ عمليات خاصة أخرى ضد من ستصمهم دون غيرهم بالإرهاب وتختصّهم بحمم صواريخها!
المسؤولون الأمريكيون، والعهدة دائما على آدم أنتوس وغوردون لوبولد، Adam Entous and Gordon Lubold، “امتنعوا عن تحديد الدول التي يمكن أن تستضيف الطائرات الأمريكية”! ولا يحتاج المرء إلى عبقرية خارقة لمعرفة هذه الدول التي يعنيانها، وإن أكّدا في تقريرهما أنّ الدول الشمال أفريقية لم توافق -بعد- على منح الولاياتالمتحدة الحق في إنشاء القاعدة!
لم توافق بعد!! وهل يملك من يستجدي دعما عسكريا وعتادا وتأمينا لحدوده وقروضا لا تنتهي، هل يملك أن يرفض لولي الأمر أمرا؟ هل بوسع دول تقايض قرارها السيادي بمجرّد الحفاظ على الكيان الذي يتآكل أو هو تآكل، وتُوقّع مذكرات التفاهم والاتفاقات الأمنية والعسكرية، أن تظلّ قادرة على عدم منح من يبتزها أكثر من الحق في إنشاء قاعدة؟
قائد قوات العمليات الخاصة، Special Operations Command، التابعة للبحرية الأمريكية، الأدميرال وليام ماك رافين، William McRaven، يعلّل مثل هذه الإستراتيجيات التي تستثمر فى الفوضى غير الخلاقة، أين يتوجّب إدارة الأزمات المستدامة، Perpetual، لا حلّها، بقوله “في المستقبل المنظور سيكون لزاما على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تتعامل مع أنواع مختلفة من التطرّف ومصادر تهديد متنوّعة. ولكي تتولّى القيام بعمليات ناجحة بمختلف أنحاء المعمورة، على قواتنا السرّية الخاصة أن تتأقلم”.
وهي فعلا “تتأقلم” في مسارح يُحدّدها ويُعرّفها على أنها “مناطق الفوضىى وبقايا الدول الفاشلة في الشرق الأوسط مثل اليمن وأجزاء من شمال أفريقيا، مروراً بالصومال إلى نيجيريا فالمغرب العربي، بالإضافة إلى آسيا وأميركا اللاتينية”!
الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي ما فتئ يردّد لازمته المكرورة “أمريكا لا يمكن أن تكون في حرب إلى الأبد”، مصرّا على أن الإهتمام العسكري بأفريقيا لا يعدو أن يكون ضرورة أمنية يختزلها في ما يسمّيه ب”ملاحقة للإرهابيين”، أضحى أكثر من أي وقت مضى يُشدّد، أمام تصاعد العمليات السرية في أفريقيا، وسؤال المحلّلين الإستراتيجيين والعسكريين عن مغزى إهتمام البنتاغون بهذه القارة وتسارع وتيرة بناء القواعد، المعلن منها والمخفي، على أنّ “ملاحقة الإرهابيين في أفريقيا شيء، وخوض القوات الأمريكية حروباً هو شيء آخر!”، نفيُ أوباما أو إنكارُه يتعارض مع يورده إيريك شميت، Eric Schmitt، في تقرير الصادر بالنيويورك تايمز، The New York Times، يميط فيه اللثام عن اعتزام وزارة الدفاع الأمريكية “إستدعاء أفراد فرقة مشاتها الأولى، ممّن كانوا في العراق أو أفغانستان، بغية تنفيذ ما يزيد على 100 مهمة لمكافحة الإرهاب في أفريقيا خلال العام المقبل.” يتنزّل ذلك في إطار ما تصنّفه وزارة الدفاع الأمريكية “جزءا من إستراتيجية جديدة لتدريب وتقديم المشورة لقوات دول أفريقية في ملاحقة والتصدّي للتهديدات الإرهابية الناشئة والمخاطر الأمنية الأخرى”. تقرير الصحيفة يؤكّد أنّ “البرنامج الأول من نوعه الذي يعتمد على قوات من لواء مكوّن من 3500 جندي فى فرقة المشاة الأولى التابعة للجيش الأمريكي، تعرف بإسم “Big Red One”، دخل حيز التنفيذ عمليا! ممّا جعل عدد أسطول الطائرات بدون طيار يقفز من 50 طائرة فقط،كانت بحوزة البنتاغون منذ 10 سنين، ليبلغ المعلن عنه 7000 طائرة! هذا ما يؤكّد جليا أن المسألة لم تعد مجرّد تغيير في أسلوب التعاطي مع الحروب منخفضة الوتيرة، بل نهجا وخيارا استراتيجيا عسكريا جديدا، وتركيزا على هذه المنطقة تحديدا. عشرات من الطائرات الصغيرة يتمّ الطمس على هويتها والتكتّم على طبيعة رحلاتها، بحيث لا تحمل لا علم بلادها ولا أبسط إشارة عسكرية، وتبدو وكأنّها طائرات “تابعة لمستثمرين من القطاع الخاص”، تقوم برحلات في كنف السرّية التامة، على مسافة مئات الأميال شمالا نحو مالي وموريتانيا فمنطقة الصحراء، وتتولّى عمليات المراقبة والترصّد وجمع المعلومات وتوثيقها، والتصفية حين تدعو الضرورة. إلى جانب الطائرات دون طيار، ولضمان سرّية برنامج التجسّس والمراقبة، يستخدم الأمريكيون طائرات ذات محرّك واحد، من نوع “البي سي-12- بيلاتوس، Pilatus PC-12، المجهّزة بأحدث تكنولوجيات المسح والتسجيل والتصوير، وبمجسّات عالية الحساسية قادرة على تعقّب وكشف الأسلحة باستخدام الأشعة تحت الحمراء. كما تقوم هذه الطائرات بالتصنّت والتقاط الإشارات والذبذبات الصادرة عن الهواتف الخلوية أو أجهزة الإتصالات. تنطلق هذه الطائرات من مطارات سرّية معزولة، غالبا ما يستخدمها تجار السلاح والمخدّرات وفرق المرتزقة، بها مراكز خدمة وتزويد بالوقود مما يمكّنها من التحليق لمسافات تمتدّ إلى عدة آلاف من الأميال.
تدّعي الولاياتالمتحدةالأمريكية أن إنشاء قواعد للطائرات دون طيار ونشر فرق عملياتها الخاصة لتنفيذ حروب الظل،Covert Wars، إنّما يندرج في إطار تعزيز جهودها “لجلب السلام والأمن إلى شعوب أفريقيا وترويج أهدافها المشتركة للتنمية والصحة والتعليم والديمقراطية والنموّ الإقتصادي”، كما أبلغ الرئيس السابق جورج بوش يوم إعلانه عن مولدها رسميا، وكما يردّد هذا الأوباما صباح مساء. وكان أن رُصدت لهذه القيادة موازنات ذات أرقام فلكية، قفزت من 50 مليون دولار سنة 2007، إلى 57.5 مليون دولار سنة 2008، لتبلغ 310 مليون دولار سنة 2009! ولكم أن تتخيلوا ما بلغته اليوم! لا يجانب الجنرال الأمريكي ديفيد هوغ، David R. Hogg، الصواب، حين يصرّح معلّقا عن بؤر التوتّر الأفريقي والدور الأمريكي حيالها بقوله “لسنا هنا لنربح حروب الأفارقة ولا لفض نزاعاتهم!” فالغايات الحقيقية الكامنة، والتي تتخفّى وراء اللغة الخشبية للدبلوماسية الأمريكية، وتتستّر بال”دور الرسالي” الأمريكي لنشر الحضارة ومؤازرة الشعوب، وتتعلّل بالدّواعي الأمنية وفزّاعات “الإرهاب” و”التطرّف” و”القرصنة”، ما هي إلاّ الذرائع لحماية مصالح الإمبراطورية الحيوية والجيو-ستراتيجية المتعدّدة، بدءا بتأمين واردات النّفط، إلى السيطرة على مصادر الطاقة، فوضع اليد على المعابر المائية ذات الأهمية البالغة، فإذكاء عوامل عدم الاستقرار والفوضى، كما الحال أينما وجهتم وجوهكم! في ظل التحلّل والتشظّي الأمني والكياني والسيادي اللّيبي واليمني وتنامي ووو.. سطوة وحشهم المدلّل، الذي يهشّون به على مصالحهم الحيوية ولهم فيه مآرب أخرى، يهندسون جيناته ويفرّخون تنظيماته، يستنسخونها إستئناسا بأطلس الموارد ومصادر الطاقة، وعملا بتعاليم الإستراتيجيات الكبرى، يوظّفونه متى شاؤوا، فزّاعة أو شمّاعة أو أداة أو ذريعة! فبؤر التوتّر الكامنة والمستعرة، التي يديرونها ولا يعملون على حلّها، تُشكّل ورقات ضغط وابتزاز ومساومات سياسية وأمنية، لليّ ذراع من تُسوّل له نفسه التنصّل من إلتزامات الأنظمة المخلوعة، وفرض وصاية جديدة تضمن ما كان مُؤمّنا، وزيادة، وذلك عبر فخاخ المساعدات والقروض وبرامج الشراكة والتدريب والتأهيل وشعارات الدعم والتبنّي التي تخفي أجهضت إستحقاقات الإنتفاضات المغدورة!
الآن..وقد حان قطاف إدارة التوحّش واستراتيجيات الصدمة والترويع التي تجعل ضحايا الإرهاب الدولي يطالبون من يمارسه عليهم، بالتكرّم والتفضّل عليهم باحتلالهم و”تخليصهم” ممّا زرعه بينهم وهم شاخصون! أ لم يعد لزاما أن تدفع المحميات من مالها ومن دم أبناء هذه الأمة الثكلى، بعد أثمان عمليات الابتزاز التي لا تنتهي، لتمويل، حروب وكالة إمبراطورية الشر المحض، من أفغانستان إلى العراق فسوريا فليبيا ف…..؟ من الدواعش”المعتدلة“، تمكينا.. انتهاء بالدواعش ”المشيطنة“..تدميرا!! واشنطن التي يراد لنا أن نقنع بأنها تحاول وحلفاءها، بعد عام من سيطرة وتمدّد تنظيم الدولة في شرق هذا الوطن الدامي ومغربه، أن تتصدّى لهذا التنظيم، بلغ مُتوسّط كلفة حملتها اليومية، نعم اليومية، وفقا لوزارة الدفاع الأمريكية، 2.91 مليار دولار اعتبارا من شهر جوان 2014، دون أن تحقّق منجزا وحيدا، إلاّ ما اتفق ومشاريعها المعدّة سلفا للمنطقة! ولا يزال متعهّدو حروب الوكالة التي أتت على الأخضر واليابس يدفعون من أموالهم ومن مقدّراتهم ومن سياداهم الوطنية، دون أن تهتزّ لهم قصبة!
كلّ ذلك وإيران هذه التي صمّوا آذاننا بعداوتها، بدلا عن الكيان الصهيوني الذي أضحى النصير والمستأمن، ترغم حليفتهم التي يهابونها ويستجيرون بها، كالإستجارة من الرمضاء بالنار، على إبرام اتفاق يغير قواعد اللعبة بالمنطقة، ويعيد صياغة تحالفات دولية وعداوات وأولويات تقليدية، كما سيؤسّس لإيران كقوة إقليمية نووية، ويُعزز مكانتها كدولة عظمى في هذه المنطقة الحيوية المتفجرة المتشظية بالصراعات، ويثبتها عضوا قارا في نادي الكبار، بعد ان اكتسبت شرعية لبرنامجها النووي، وسط محيط يتلظّى ويكتوي ببراكين الحروب العرقية والطائفية والدمار الذاتي!
يا سادة، حين تُخيّر أمة بأسرها بين الإنتداب أو الفوضى مع وقف التنفيذ، ويصير الإحتلال مطلباً “ثوريا”، نكون فعلا قد لامسنا حافة الهاوية! شعب يتلظّى ووطن يتشظّى! أ لسنا في عزّ موسم حصاد “إدارة التوحش” واستراتيجيات “الصدمة والترويع″؟