الأصوليات المسيَّسة في اليمن جامدة ومشتّتة وتدير صراعاتها البينية بالأفكار والأفعال التعبوية النافية للآخر ولحركة الواقع، فهي تختنق بذاتها لأنها تكرر مقولاتها التاريخية وتعيد إنتاج واقعها الراهن بماضوية أشد بؤساً وأكثر تحريفاً للنصوص التي تستند عليها لشرعنة أفعالها، هي لاتجتهد لخلق خريطة فكرية تلائم حاجة الواقع، بل تدمره وتنتج أهواءها التي تُجذر الجمود في الواقع لتستعبده بمفاهيم كلية تحاول قسر وإكراه الواقع من خلالها ويشكل العنف الرمزي والمادي وسيلة لتعميم يقينياتها حتى تلك المغايرة للنص وللواقع، فتصبح تأويلاتها نهاية الإبداع وخلاصة الحقيقة، وهذا ما يفسر خياراتها العنيفة وهي تمارس الفعل السياسي حتى التفاوض والتسويات لديها يصبح طريقاً لا لخلق التوافق والشراكة وقيم العيش المشترك وتوزيع للمصالح بآليات واضحة، بل السياسة لديها وسيلة وغاية لإحقاق الذي تعتقده، وهذا أيضاً يفسر نزاعات الأصوليات فيما بينها، فالتعدد الأصولي مثير للنزاعات وخالق للأزمات ومبدع في تفجير الكوارث، هي تجاهد سياسياً لإثبات الحق لا من أجل تحقيق العدالة والإنصاف وإن تحدثت عن العدالة فإنها ترى أن سيطرتها الشاملة هي العدالة. قد تتحدث الأيديولوجيات الأصولية عن تعمير وتقدم الشعوب إلاّ أن أفعالها التي تنتجها العقائد الأيديولوجية ونتيجة لصراعاتها الانتهازية في بناء قوتها والتناقضات التي تفرزها تلقائياً بين الفعاليات السياسية وفي المجال الديني والثقافي والاجتماعي يجعلها عائقاً أمام تنمية طبيعية وتلقائية، وخيالاتها التي تسطرها في مقولاتها عن النهضة ليست إلاّ انعكاساً أيديولوجياً لبنية أصولية مسيّسة، همومها مرتبطة بالخيال التنظيري الذي لا يعبّر عن الواقع بل عن جموح البنية الأصولية، كما أن إنجازاتها البسيطة تتحول إلى دعاية لتزوير الواقع. فالحوثي المؤدلج يعتبر صعدة أنموذجاً للتقدم طالما الهيمنة له ولن يتقدم اليمن ويفوز بالدنيا والآخرة ما لم يؤمن بالأيديولوجيات الحوثية التي ترتكز على محور جوهري وهو الولاية، لا يتحدث الحوثي عن الأخطاء والكوارث التي تصيب اليمن الناتج عن أفعاله التي تسعى لبناء قوة الحركة وتعميم الأيديولوجيات الهزيلة التي يستند عليها، فما يقوم به ليس إلاّ جهاداً لانتصار الحق المبين. وبالإمكان الحديث عن الإخوانية، وهي اليوم ليست إلا الثورة التي لابد من الاستسلام لها باعتبارها خلاصة لأي تقدم في اليمن، بل إن سيطرتها ليست إلا دليلاً إلهياً على اقتراب الخلاص لانتصار الأمة. هي لا تتحدث عن تجربتها الفعلية ولا عن الوقائع ومآلات أفعالها على الواقع المتردي، بل إنها تنفي عن نفسها أية مسئولية، فالكل فاسد إلاّ هم. بالمثل سنجد أن فظائع القاعدة وقهرها لأمن واستقرار اليمن والدمار الذي يلحق باقتصادنا ليس إلا علامات النصر على الأمريكان وعملائها وبشارات الإسناد الرباني لهم. ولأن الأيديولوجيات الأصولية الغارقة في السياسة من ناحية واقعية تنتهي محصلة القوة بأيدي أقليات هي جزء من شبكات المصالح فإنها تدير معاركها باسم الله لتنتهي محصلة الجهاد في أرصدة ومصالح محترفين تراكم مصالحهم يمثل الضرورة التي لابد منها لانتصار الحق ولا يهم أن يتم ممارسة الفساد بكل صوره حتى ينتصر الحق ويحكم رجال الدعوة. الأخطر في الأيديولوجيات الأصولية في فهمها للمصالح الوطنية أنها تتم عبر البنية الكلية للأيديولوجيات الإسلاموية في المنطقة مما يجعلها كيانات داخلية بولاءات خارجية وارتباط قائم على هيمنة المراكز المنتجة لها، لذا فستجد أن الحوثية لا تفهم دورها الوطني إلا بالمنظار الذي يحدده المرشد ولي الفقيه، فليست مهتمة بالخيارات الوطنية لأمن اليمن القومي الذي تفرضه الجغرافيا ومصالح أبناء اليمن وإنما بخيارات طهران، ولايهم أن تضحي اليمن بمصالحها وحاجاتها لتدعيم الأمن القومي لدولة الملالي. وبالمثل يمكن الحديث عن الأيديولوجيات الإخوانية ذات العقائد الباحثة عن خلافة، فمصالح الدول التي يحكمها الإخوان هي الأصل والفصل وما يحدد خياراتها الخارجية هو مصالح التنظيم الإخواني بامتداداته العابرة للحدود ما يجعلها أشبه باليسار الذي ارتبط بموسكو وبكثافة عقائدية قد يدفعها إلى جعل اليمن كدولة غير مركزية في الصراعات الإقليمية والدولية أداة موظفة للاستراتيجيات الكبرى لتنظيم الإخوان العالمي وتحالفاته التي تساعده على بناء قوته وفرض هيمنته. أما تنظيم القاعدة ككيان يعاني من عمى استراتيجي في فهم أدواره العبثية والخطيرة على أمن شعوبنا ومخاطره الكارثية على صورة الإسلام والمسلمين، فإن اليمن ليست إلا أرضاً لابد أن تنشر فيه الفوضى لتحقيق عقائد تبدو له حقائق وهي أوهام تجعل منها أيديولوجيتهم طريقاً للنصر وهي الفعل الأكثر تخليقاً للهزائم والأقوى في إنهاك الإسلام والمسلمين!! هذا النقد ضروري لا من أجل الإدانة وإنما لتفكيك واقع هذه الأيديولوجيات الاسلاموية بهدف تجاوز الأخطاء لا النفي والإقصاء حتى يتمكن الإنسان اليمني من الخروج من معضلاته ويتحرر من حالة الجمود ويتجه إلى حوار أكثر قدرة على الكشف، فإعادة البناء تحتاج إلى كشف الواقع وتشريحه في ظل تحولات أنتجت صراعات ترمم الواقع الأكثر تأثيراً على إعاقة التغيير. * أسبوعية "المنتصف"