مفاوضات بلا نهاية وترحيل متكرر للخلافات... تمهيد: هذه الحلقات هي مجرد محاولة استشرافية لمسار الأحداث المتوقع في بلادنا في المستقبل المنظور انطلاقا من مجموعة من المؤشرات والدلائل والشواهد التاريخية، ورغم تعدد الاحتمالات والفرضيات في هذا المسار، إلا أنني تعمدت سلوك مسار الأحداث الذي يلبي رغبة قوى الحراك حتى إن كان فيه قفز على الواقع في أحيان كثيرة، وذلك لمحاولة معرفة إلى أين سيصل بنا ذلك في نهاية المطاف.. هل إلى الاستقرار أم إلى الحرب الأهلية؟ أم إلى أين؟ هذا ما سنحاول معرفته. مفاوضات بلا نهاية: -من البديهي أن تتسبب مطالب وفد الشمال التعجيزية التي تحدثنا عنها في الحلقات السابقة (ضم شبوة والصبيحة إلى الشمال ومنح أبناء حضرموتوعدن حق تقرير المصير) كشروط للقبول بفصل الجنوب عنه، في فشل المفاوضات الثنائية مع وفد الجنوب خارج اليمن، لكن في المقابل لن يدخر الوسطاء أي جهد للحيلولة دون وصول المفاوضات الثنائية إلى طريق مسدود أو الإعلان عن فشلها، لإدراكهم أن ذلك سيكون بمثابة صفارة إطلاق للحرب الأهلية في اليمن. - ونظراً لاستحالة التوصل إلى حلول وسط يقبل بها الطرفان، لذا لن يكون أمام الوسطاء سوى إقناع الطرفين بترحيل بحث القضايا الخلافية المعقدة إلى جولات أخرى من المفاوضات، والتركيز على الملفات الأقل تعقيدا، والتي يمكن التوصل إلى اتفاق بشأنها، بحيث يتم استخدامها كمبرر لمد عمر المفاوضات إلى اجل غير معلوم. -في الغالب سيركز الترويج الإعلامي لكل جولة من جولات التفاوض على نقطتين رئيسيتين: أولاهما إضفاء أجواء ايجابية لسير المفاوضات عبر الحديث عن إحراز المتفاوضين تقدماً في عدد من الملفات مع تضخيم حجم التقدم الذي أحرز، والثانية إبقاء باب الأمل مفتوحاً بقرب نجاح المفاوضات من خلال الحديث عن وجود فرص حقيقية لتوصل الطرفين خلال الجولة التالية لاتفاق على ما تبقى من نقاط خلافية، لكن المرجح أن جولات عدة من المفاوضات ستضيع في مناقشة قضايا ثانوية وتفاصيل التفاصيل، وسيمر وقت طويل ونحن نسمع أخباراً مكررة عن انعقاد جولة جديدة وانقضاء أخرى من جولات تفاوض غير منتهية، وقد تمضي سنوات دون إحراز تقدم حقيقي بشأن القضايا الرئيسة . -لا نبالغ، أبداً، في اعتقادنا أن المفاوضات الثنائية قد تستغرق سنوات طويلة، لان هذا النوع من المفاوضات يتسم بطول فترته، وهناك أمثلة عدة ترجح ذلك، وسنورد منها مثالين لوجود أوجه شبه وتقاطع مع الحالة اليمنية وهما : الأول: مفاوضات السلام بين المغرب وجبهة البوليساريو بشأن تحديد مصير الصحراء الغربية، التي اعترفت بها أكثر من نصف دول العالم كدولة مستقلة العام 1974م عند انسحاب القوات الاسبانية من الصحراء، وقد اضطرت جبهة البوليساريو -بعد فشل خيار الكفاح المسلح الذي خاضته ضد النظام المغربي طوال 16عاماً - الدخول في مفاوضات سلام مع الرباط وبرعاية مباشرة من الأممالمتحدة للمفاوضات، التي بدأت أولى جولاتها العام 1991م، ورغم مضي 22سنة على بدء تلك المفاوضات، إلا أن الطرفين عجزا، إلى حد الآن، في التوصل إلى أي اتفاق مع إصرار المغرب على اعتبار الصحراء جزءاً لايتجزأ من أراضيه ورفضه المطلق منح الصحراويين حق تقرير المصير والقبول بمنح الصحراء الغربية حكماً ذاتياً تحت السيادة المغربية. أما المثال الثاني: فهو مفاوضات السلام السودانية - التي يطالب العطاس وقيادات حراكية أخرى باستنساخها في بلادنا- وكانت قد بدأت فعلياً العام 1993 عندما أصبح رؤساء دول الهيئة الحكومية للتنمية (الإيقاد) طرفاً في مبادرة السلام الإقليمية التي سعت إلى جمع الخرطوم وجوبا على طاولة المفاوضات المدعومة من الأممالمتحدة، وكانت هذه بداية لعملية طويلة تكللت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005م، الذي أقر منح الجنوبيين حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية استمرت 5 سنوات، وتم في نهايتها إجراء الاستفتاء ومن ثم إعلان دولة الجنوب في يوليو 2011م. -إذا كان جنوب السودان قد احتاج لخوض مفاوضات سلام طويلة مع الشمال استمرت لما يزيد عن ال18عاماً قبل أن يتمكن من إعلان دولته- التي لا تزال بعد عامين من إعلانها غير قادرة على توفير الحاجات الأساسية لمواطنيها- فكيف سيكون عليه الحال بالنسبة للجنوب في بلادنا سيما مع حقيقة تشابك وتداخل وتعقيد القضايا في بلادنا بصورة تفوق بمراحل عما كان عليه الوضع بين شمال وجنوب السودان، وكل ذلك يؤشر إلى عدم وجود فرص حقيقية لنجاح المفاوضات الثنائية أو في أسوأ الأحوال ستستغرق فترة أطول من تلك التي استغرقتها المفاوضات السودانية. - طبعاً عجز وفدي الشمال والجنوب في التوصل لاتفاق على معظم النقاط الخلافية معناه فشل تام للمفاوضات الثنائية، لكن رعاة المفاوضات سيحاولون تجنب الإقرار الصريح بفشل المفاوضات، باللجوء إلى سياسة ترحيل الخلافات من جديد، وذلك بدفع الطرفين للانتقال إلى مرحلة جديدة من المفاوضات يتم الانشغال فيها بقضايا ثانوية أخرى، حيث سيمارس الوسطاء مختلف الضغوط الممكنة على وفدي التفاوض للقبول باتفاق عام بشأن القضية الرئيسة في المفاوضات (قضية الوحدة ومطالب الانفصال) حتى وأن كان اتفاقاً مبهماً وغير واضح المعالم، بحيث يكون ذلك الاتفاق بوابة عبور للانتقال بالمفاوضات إلى مرحلة جديدة تركز على مناقشة تفاصيل المرحلة الانتقالية. -كما جرت العادة سأفترض جدلاً حصول معجزة ما توصل بموجبها الوسطاء الإقليميين والدوليين لحل وسط لقضية الوحدة يتضمن الاتفاق على وحدة فيدرالية بين الشمال والجنوب مدتها خمس سنوات يتم في نهايتها منح الجنوب حق تقرير المصير، وفي حال الانفصال يتم منح أبناء عدنوحضرموت حق تقرير المصير بعد خمس سنوات من انفصال الجنوب، وكذا الاتفاق على تأجيل بحث مطالب الشمال في شبوة والصبيحة إلى نهاية الفترة الانتقالية، إضافة إلى تعهد الحراك بالعمل على إقناع أبناء الجنوب بالوحدة، كما سيتعهد المانحون بتقديم مليارات الدولارات لليمن خلال الفترة الانتقالية لمساعدة النظام المؤقت في تحريك عجلة الاقتصاد وخفض نسب البطالة وتحسين الوضع المعيشي، مما يفترض أن يساهم في جعل الوحدة جاذبة لأبناء الجنوب على وجه الخصوص ومن ثم يرفع احتمالات تصويتهم لصالح بقاء الوحدة. الفترة الانتقالية الثالثة في عمر الجمهورية اليمنية: - قبل بدء الفترة الانتقالية يحتاج الطرفان التفاوض من أجل التوصل لاتفاق شامل أو إطار عام لها وكيفية إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية خاصة ما يتعلق بمبادئ للحكم، أو مضامين الدستور المؤقت وهيكل الدولة ومدة الفترة الانتقالية، بالإضافة إلى وضع الجيش وإعادة انتشاره وتمويله وكيفية إدارة الملف الأمني في الجنوب، طبعاً مع مطالبة الجنوب بإعادة تشكيل ألوية الجيش الجنوبي التي كانت موجودة حتى العام 94م . -كذلك الحاجة للاتفاق على الأسس والمبادئ التي سيتم بموجبها إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية للسلطتين التنفيذية والتشريعية لإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، وفي حال تم الاتفاق على حق تقرير المصير، فهناك حاجة للاتفاق على إطار عام يتضمن القانون الذي سيحدد مهام واختصاصات وعضوية اللجنة التي ستتولى عملية الإعداد وتنفيذ عملية الاستفتاء.. إلخ، وكل ذلك يحتاج إلى مفاوضات طويلة وشاقة قد تستغرق سنوات نظرا لحجم الخلافات والتباينات المتوقع نشوبها بين الشمال والجنوب حول غالبية تلك القضايا وتفرعاتها الكثيرة. فترة انتقامية: - ليس بخاف أن تجربة اليمنيين مع الفترات الانتقالية غير مشجعة سواء الفترة الانتقالية خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الوحدة أو الفترة الانتقالية الحالية وذلك لما رافقهما من توتر سياسي بين المكونات الرئيسة في البلاد وانفلات امني وتدهور اقتصادي وغلاء معيشي، ورغم تلك السلبيات إلا أن المرجح أن تكون الفترة الانتقالية الثالثة في عمر اليمن الموحد أسوأ بكثير من سابقتيها وأكثرها كارثية على اليمنيين. -طبعاً هذه النظرة السلبية ليست من باب الإفراط في التشاؤم وإنما مردها أسباب عدة أهمها وجود اختلاف جوهري بين الفترة الانتقالية الثالثة وبين الفترتين الأولى والثانية من حيث هدف المكونات السياسية منها، فهدف شريكي الوحدة (المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي) من الفترة الانتقالية الأولى كان التهيئة والتحضير لانتخاب قيادة شرعية لإدارة البلاد، لذا تركز التنافس والصراع بينهما في محاولة كل طرف إضعاف خصمه وإحكام قبضته على السلطة. في حين أن هدف طرفي التسوية السياسية (المؤتمر الشعبي وحلفائه والمشترك وشركائه) من توقيع المبادرة الخليجية -التي أدت إلى دخول اليمن في الفترة الانتقالية الثانية - كان تجنيب البلاد الانزلاق إلى حرب أهلية والبحث عن معالجات للمشاكل الرئيسة لتعبيد الطريق أمام إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في نهاية الفترة الانتقالية، لذا تركز التنافس والصراع بين الطرفين في محاولة كل منهما إضعاف خصمه وتعزيز فرصه في الانتخابات المقبلة. لكن الوضع يختلف تماماً بالنسبة للفترة الانتقالية الثالثة لاختلاف هدف شريكي الحكم منها، فالطرف الشمالي سيتعامل معها كمحطة لتثبيت وحدة البلاد، في حين أن الطرف الجنوبي سيتعامل معها كنقطة عبور للانفصال، وهذا الاختلاف سيؤدي إلى انعدام تام للثقة بين شريكي الحكم وتناقض صارخ في سياسات ومواقف الطرفين من مجمل القضايا الداخلية والخارجية، وسينعكس ذلك بشكل مخيف على مختلف الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية وستكون بمثابة فترة انتقامية من اليمن واليمنيين، ففي الغالب سيكون الوضع هشاً وغير مستقر خلال عمر الفترة الانتقالية وستكون البلاد وكأنها واقعة في حرب أهلية مصغرة أو في مراحلها الأولى، وهذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة - بإذن الله تعالى... يتبع [email protected] * صحيفة "المنتصف"