جولة جديدة من العنف في ليبيا يتوقع لها أن تكون الأشد منذ سقوط نظام معمر القذافي، وحاسمة في تحديد المسار المستقبلي للبلاد الغارقة في دوامة مفرغة من الحروب السياسية والمسلحة، لكن الصورة ستظل غير واضحة إلى حين. اتساع نطاق المؤيدين للعملية التي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، من عسكريين وسياسيين، في مواجهة الميليشيات المتشددة يعطي لتحركه زخماً كبيراً، يرى فيه كثيرون أنه سيعيد ترتيب الخريطة السياسية الليبية، وموازين القوى المسلحة على الأرض، بتسارع كبير بدأ يستقطب مواقف إقليمية ودولية بخصوص البحث عن سياق دبلوماسي لإخراج ليبيا من عنق زجاجة فوضى العنف والسلاح، واستعادة بنية الدولة التي انهارت بعد سقوط نظام حكم معمر القذافي، وحلت محلها سطوة المليشيات الجهوية والقبلية والاثنية، البعض منها يرفع شعارات انفصالية، بالإضافة إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي وفر لها غياب الدولة، وتناقضات الحالة الليبية بعد الحراك الشعبي المعارض في (17فبراير)، مرتعاً لتقوية نفوذها، وتحويل البلاد إلى بؤرة عدم استقرار، تهدد مستقبل ليبيا وتؤثر على دول الجوار. أحد الأصدقاء السياسيين الليبيين المخضرمين اختصر، حسب رؤيته المستندة إلى تجربة وخبرة عميقة، ما يجري اليوم من أحداث متسارعة بالقول: السؤال المطروح حقيقة على مستوى الشارع ليس من مع اللواء حفتر ومن ضده، بل من مع استمرار فوضى السلاح وصراع الميليشيات وقادة الأقاليم والنخب السياسية الجديدة الحاكمة بعد ثورة (17 فبراير)، ومن مع إعادة بناء جيش وطني قادر ومؤسسات دولة فشلت الهيئات الانتقالية الحالية في انجازها. ويضيف: ما كان للحركة التي أطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر أن تحظى بمثل هذا الزخم المتصاعد، لولا أن غالبية كبيرة من النخب السياسية والعسكرية، وإلى جانبها غالبية شعبية، باتت تستشعر خطر استمرار الأوضاع في ليبيا على ما هي عليه، في ظل حالة عجز مطبق شابت عمل"المؤتمر الوطني العام" (البرلمان)، لم يعد من الجائز السكوت عليها. مع الإشارة هنا إلى أن اللواء حفتر، حسب رأي الصديق السياسي الليبي، يحظى بثقة قطاعات واسعة من الحراك الشعبي الذي ثار على نظام حكم القذافي، ولا يمكن عقد أي مقارنات مع حالات عربية أخرى، بصرف النظر عن المواقف المؤيدة أو المعارضة لها، لأن حفتر يحسب تاريخياً على المعارضين للقذافي، ومن أوائل من أيدوا وشاركوا في حراك (17 فبراير)، كما أن الحديث في ليبيا ينصرف إلى ضرورة إعادة بناء جيش وطني وتمكينه، بينما أوصلت المليشيات المسلحة البلاد، إلى دوامة من الانفلات الأمني بات يشكل خطراً محدقاً بمستقبل الوطن والشعب الليبي، في ظل الصراع اللامبدئي المحتدم بين الجهات النافذة في أوساط النخب السياسية المستجدة. التحليل السابق يستحق التوقف عنده في العديد من النقاط، أولها رؤية المشهد الليبي بعد "17 فبراير" من نافذة خصوصيته، التي تختلف كثيراً عن السياقات التي سارت فيها الحراكات الشعبية الأخرى في بلدان ما يصطلح على تسميته ب"الربيع العربي". فليبيا نتيجة سنوات حكم القذافي لم تعرف في تاريخها الحديث بنية مجتمع مدني قادر ومتمكن، ولا مؤسسات دولة حقيقية بالمقاييس والوظائف المتعارف عليها، كما أنها لم تمتلك جيشاً وطنياً محترفاً. وجاء التدخل العسكري الغربي ليقوض البنية الضعيفة للدولة، وفكك الجيش الوطني الليبي، دون الالتفات إلى عواقب ذلك، لأن الأطماع الغربية في الثروات الليبية كانت الباعث للتدخل والعمل على إسقاط نظام حكم القذافي. ومنذ اليوم الأول لسقوط سيرت في أيدي قوات "المجلس الانتقالي الليبي"، ومصرع العقيد القذافي ونجله المعتصم ووزير الدفاع أبو بكر يونس، دخل عدد كبير من القادة العسكريين، "المجلس الانتقالي" في امتحان ضبط الوضع الأمني وفوضى السلاح، ووقف عمليات الثأر الانتقامية ضد أنصار النظام السابق، وفشل في هذا الامتحان، وأورث فشلة ل"المؤتمر الوطني" المنتخب. فقد عانى "المجلس الانتقالي"، وبعده "المؤتمر الوطني"، معضلة الانقسامات الحادة في صفوفه، والتأثير الكبير للمليشيات القبلية والجهوية المسلحة والخارجة عن نطاق سيطرته، وميل الخارطة السياسية الجديدة في ليبيا لصالح كفة الجماعات الإسلامية المتشددة، التي أسقطت في أول ضرباتها رئيس "المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي" محمود جبريل، وعادت وأبعدته بعد انتخابات "المؤتمر الوطني"، في سياق تصفية دور قيادات التيار العلماني الذي يقوده، ومن بينها محمود شمام وعلي الترهوني وعبد الرحمن شلقم وناجي بركات.. الخ. إلى جانب فشل "المجلس الانتقالي"، ومن ثم "المؤتمر الوطني"، في مواجهة التحديات الأمنية والانقسامات الداخلية، وسياسة الإقصاء التي تعمل على تطبيقها الجماعات الإسلامية، فشل آخر في تحدي إعادة أعمار ما دمرته الحرب، وبناء وتسليح جيش جديد، واستنهاض المؤسسات الخدمية والصحية والتربوية، وبسط سلطة الدولة، ونفخ الروح في الاقتصاد الليبي وتخليصه من طبيعيته الريعية المعتمدة على تصدير النفط. ويؤخذ على قيادات المجلسين المذكورين، والحكومات الانتقالية، أن طريقة إدارتها للأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية اتسمت بالقصور الشديد، وضعف التعاطي مع الشأن الداخلي، والتخبط والعجز عن تسيير الأمور، جراء إتباعه أسلوب الإدارة عن بعد، التي تسببت في كثير من الكوارث على المستوى الوطني. حسب انتقادات وجهتها مؤسسات محلية ليبية ل"لمجلس الانتقالي"، وتنطبق على "المؤتمر الوطني" والحكومات المتعاقبة منذ سقوط نظام حكم القذافي. وأدى ذلك إلى فراغ في السلطة وصراع تناحري عليها، واحتقان شعبي قاد نحو العنف في الشارع غير مرة، من أمثلتها المظاهرات الاحتجاجية ضد "المؤتمر الوطني" في بنغازي، وما سبقها من تحركات جماهيرية حاشدة تنديداً باستمرار وجود المليشيات القبلية والأيدلوجية المتطرفة وفوضى السلاح في العاصمة طرابلس، واندلاع معارك على خلفية ثارات قبلية قديمة في مدينة الزنتان ومدن أخرى، والدعوات الانفصالية في برقة، ومظاهر التخبط والانقسام في صفوف "المجلس الانتقالي" و"المؤتمر الوطني"، وشلل الحكومات المؤقتة، وانهيار كافة مؤسسات الدولة والقطاعات الخدمية. وفي الأشهر القليلة الماضية صار من الجلي تماماً أن الجماعات الإسلامية المتشددة هي اللاعب الرئيس خلف ستار الأزمات، بدعم من جهات خارجية، وتمسك بيديها ورقة الميلشيات المسلحة، لتقوية نفوذها في السلطة والجيش والمؤسسات الأمنية، ومن المعروف أن أكثرية زعماء المليشيات أعضاء في جماعات إسلامية متطرفة أو من مؤيديها وحلفائها. الأمر الذي دفع غالبية المحللين السياسيين إلى اعتبار أن حركة اللواء حفتر ومؤيديه بداية مواجهة مفتوحة ضد الدور الذي لعبته، وما زالت تلعبه، هذه الجماعات المتحالفة مع الميليشيات القبلية والجهوية. إلا أن أي عمل عسكري لا يقترن برؤية سياسية واضحة، لن يكون مآله سوى الانجرار إلى جولة جديدة من العنف في حلقة مفرغة، وبالتالي لا يكفي التأكيد على أن اللواء حفتر غير طامع بتولي السلطة، فالمطلوب التمسك بالحوار الوطني كمبدأ لا غنى عنه، واحترام المسار الديمقراطي بتأمين الأجواء اللازمة لإجراء انتخابات "المجلس الوطني" المنتهية ولايته، مع الإقرار بأن ذلك غير ممكن دون وضع حد لسطوة المليشيات المسلحة والجماعات المتطرفة. إنها المعضلة التي تعاني منها ليبيا منذ سقوط نظام القذافي، وهي في آن المفتاح الوحيد لوقف دفع الثمن الباهظ للعنف والفوضى، وإذا فشلت النخب السياسية الليبية في تصويت أخطائها، قبل فوات الأوان، لن يكون مفاجئاً لأحد أن تنحاز قطاعات واسعة ممن شاركوا وأيدوا حراك "17 فبراير" لشعار الاستقرار أولاً، بما قد يحمله من مجاهيل سياسية إذا لم يُضبط برؤية بلورية تحمي المسار الديمقراطي. * موقع "أنباء موسكو"