"انا كاتب متفائل مؤمن بالإنسان كجزء من إيماني بالله، وأتمنى على الله أن يعيد العرب كما كانوا خداما للإنسانية شهداء عليها" هكذا كان يردد دوما الكاتب الكبير الراحل علي أحمد باكثير التي تحتضن القاهرة مؤتمرا عربيا موسعا للاحتفاء بالذكرى المئوية لميلاده، و شهد المؤتمر أبحاثا أكاديمية من مختلف الدول العربية كشفت جوانب مجهولة من حياة وإبداع الكاتب الراحل. وتحت عنوان "السخرية في مسرح باكثير السياسي" كتبت د. سحر حسن أشقر من السعودية ، أن سخرية باكثير كانت تخضع لظروف الحقبة السياسية التي عاشها. ويقول باكثير عن تجربته تلك: "لم أبدأ في كتابة الملهاة إلا بعد ذلك بسنوات، حينما تهيأت لإدراك الأخطار السياسية التي تهدد أمتنا العربية على حقيقتها، فأخذ السخط يغلي في نفسي على القوى الاستعمارية التي تتحكم في مصائر الشعوب العربية، ولا سيما بعدما تأزمت مشكلة فلسطين وكشرت الصهيونية العالمية عن أنيابها، وتوقح عدوانها في مناصرتها ضد مصالح العرب، وقد يبدو غريبا أن الفكاهة والسخرية تنبعان أول ما تنبعان من السخط والحقد". وكأنما باكثير أدرك بحسه المتقد ووعيه السياسي أن الملهاة من الممكن ان تصبح أداة طيعة في يد الكاتب حين تنهض ببث الألم السياسي في أسلوب ساخر سيّار ، وكانت الشخصيات الاستعمارية من أمثال تشرسل وترومان والجنرال سمطس وكذلك أعوان الاستعمار من حكام العرب أو ساستهم هم رموز مسرحياته وأقطابه المستهدفين بالسخرية.
وتتخذ د.سحر من مسرحية "الزعيم الأوحد" نموذجا على سخرية باكثير السياسة، حيث يحمل عنوان المسرحية سخرية لاذعة من الزعيم الذي عدّ نفسه فريدا في زعامته، كبرا وغطرسة ، ولم يخطر له ببال أن شبيها له سيظهر على الساحة يمارس مهنة وضيعة لتحطم تلك المفارقة نرجسية الزعيم بكل ما تحمله من إحساس بالتفرد. أيضا تظهر في المسرحية مفارقة موقف توحي بسخرية باكثير الحادة من شاعر الديمقراطية والسلام الذي يمدح الزعيم الأوحد، ويبالغ في الثناء على جمهوريته ذات العيش الرغيد لا جائع فيها ولا خائف في اللحظة التي يتم فيها القبض على عبد المؤمن صاحب المقهى العراقي لإنتمائه للقومية العربية، وتعليقه لصورتي جمال عبد الناصر وعبد السلام عارف ، فالمفارقة ترسم سخرية مركبة من الزعيم والشاعر المنافق في آن واحد، فأي ديمقراطية وأي سلام يتشدق بهما الشاعر؟ فشتان بين ما يقوله الشاعر من مدح وثناء في حق الزعيم، وبين بطش الزعيم المغاير لذلك المدح ! باكثير والصهيونية يتساءل الباحث المصري د.محمد حسن عبد الله في ورقته البحثية " استلهام الكتب المقدسة في مسرح علي أحمد باكثير" ما الذي دفع باكثير إلى خوض عدد من الكتب المختلفة المقدسة لكتابة بعض مسرحياته مع ما يعرف من وعورة هذا الطريق في صعوبته الفنية، ومن ثم صعوبة تقديمه على المسرح واعتراض النقاد على المسرحيات التي تكتب بدافع توصيل رسالة محددة وسلكها في سياق الكتابة الدعوية؟
ويتحدث الباحث عن تصور باكثير للشخصية اليهودية، حيث كتب عن "الذهب" الذي يعد عنصرا مهما جدا في مسرحيات باكثير المشغولة بالقضية العربية في مواجهة الصهيونية، وهذا الشغف بالذهب سواء بالحرص على جمعه أو الاحتماء به في تقديم الرشا وإفساد الضمائر عنصر شديد الوضوح في كافة ما يكون بنو إسرايل طرفا فيه. وتعد مسرحية "شيلوك الجديد" لباكثير الذي كتبها عام 1944هي الاقتحام المسرحي الأول المبكر لقضية الصراع العربي الإسرائيلي وتستهل المسرحية باقتباس قرآني هيأ للمؤلف الحل الذي انتهت إليه المسرحية تقول الآية: "وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، إن ربك لسريع الحساب وإنه لغفور رحيم" سورة الأعراف الآية 167 . فهذا التوعد الإلهي هو الذي يسر لباكثير أن يكون الحل المتوقع للمشروع الصهيوني هو تفسخ دولته بعد بضع سنين وإفلاسها امام إحكام الحصار الاقتصادي العربي. ويؤكد الباحث في ورقته أن علي أحمد باكثير قد قرأ أسفار التوراة بل قرأ العهد القديم جيدا كما قرأ "الأناجيل" وقد كان يحفظ القرآن ويدرك ما فيه من إعجاز لغوي وأسلوبي. المرأة في أعماله
يوضح الباحث المصري محمد جبريل أن قيمة أعمال باكثير تكمن في أنها تغطي جوانب مختلفة من التاريخ العربي الإسلامي، وتصل إلى زماننا الحالي فتناقش من خلال دور المرأة هموما مجتمعية وأسرية آنية سواء في الرواية التاريخية كما في : "واإسلاماه"، "سلامة القس"، "سيرة شجاع"، "الثائر الأحمر"، وغيرها، أو المسرحية التاريخية كما في "إخناتون ونفرتيتي"، "سر الحاكم بأمر الله"، "أبو دلامة"، "الشيماء"، و"دار ابن لقمان"، وغيرها. حيث وظف باكثير المرأة في أعماله الفنية المسرحية والقصصية للكشف عن دورها في إقامة الحياة من حولها، على مستوى الأسرة والمجتمع والأمة: زوجة حكيمة مخلصة، وأما راعية مضحية، وأختا واعية محافظة، وهو بذلك يسهم في الوقت نفسه في الإعلاء من شأن المرأة وذلك ما تحاوله اليوم الحركات النسائية المختلفة عن طريق دعوتها إلى الأدب والنقد النسائي في العالم، وفي عالمنا العربي والإسلامي. ويؤكد الباحث المصري أن باكثير كتب عن المرأة كما لم يكتب أحد غيره، لأنه كان معني بالتغلغل في أعماقها، وفي أعماله نتعرف إلى المرأة المناضلة وذلك من شخصية "الشيماء" في مسرحية "الشيماء شادية الإسلام" التي دعت إلى الإسلام وتحملت الكثير في سبيل دعوتها، وقد تحولت زينب البكرية في مسرحية "مأساة زينب" التي اتهمت بأنها انشأت صلة مع نابليون بونابرت إلى منازلة تقود الجماهير نحو الحرية والاستقلال. ونجد المرأة المتآمرة في "ست الملك" أخت الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، في مسرحية "سر الحاكم بامر الله أو لغز التاريخ" حيث تسدي "ست الملك" النصح إلى أخيها الخليفة الصغير، بعد رحيل العزيز بالله وحين يبدأ الحاكم تصرفاته الدموية تتصدى له ست الملك، وتحذره من العاقبة وإن كان هدفها ليس مجرد تحقيق الأمن والسلام في ربوع البلاد، وإنما الخشية من أن ينقلب السحر على الساحر فيواجه الفاطميون في وطنهم الجديد "مصر" مصيرا قاسيا، ورجح الرواة أن تكون ست الملك هي التي سعت لاغتيال أخيها حتى لا يستمر في تصرفاته. وتطالعنا المرأة المحبة في قصة "سلامة القس" الجارية سلامة التي تحب عبد الرحمن القس، يعاني الحبيبان قسوة الظروف والبيئة واختلاف المكانة الاجتماعية ولا يفلحان في انتزاع استمرارية حبهما بالزواج. ومع أن باكثير كتب مسرحيته"اخناتون ونفرتيتي" لأنه قد أعجب بتاريخ حياة اخناتون وحركته الدينية وثورته على كهنة آمون وتبشيره بالحب والسلام، مع ذلك فالمسرحية عنيت أيضا بتجسيد شخصية زوجته "نفرتيتي" التي كان لها دورها المؤكد في تنامي الحدث الدرامي، فهي في كل الفصول بارزة ومتميزة بمواهبها وعواطفها وسعة حيلتها وحسن سياستها، ترك لها زوجها تصريف الأمور وإدارة الشئون اعتمادا على قدرتها واتكالا على حكمتها وحسن سياستها. الحب والحزن
جانب من مؤتمر للإحتفاء بذكراه وفق د.إنصاف علي ذاكر من السعودية نرى أن الحب كان يمثل دفق الحياة ونبض الروح في حياة باكثير، وبالتحديد حبه ل"نور" تلك الفتاة الحضرمية التي تعلق بها صغيرا وكتب فيها قصائد صباه. وأورد د.محمد أبو بكر حميد جامع ومحقق تراث باكثير أن الأديب الراحل حين اعتزم الزواج تقدم إلى أهلها خاطبا فرفضوه لصغر سنها، بعد ذلك سافر إلى أندونيسيا لرؤية والدته بعد وفاة والده وظل هناك أربعة عشر شهرا يقنع أهل نور بقبوله ويستعين في ذلك بالوسطاء والوجهاء حتى تم له ذلك عام 1925م فظن أن السعد قد ابتسم له، ولكن قُدر لحبيبته نور أن تصاب بمرض عضال يأخذ بيديها إلى الدار الآخرة، وبرحيلها يفقد باكثير بهجة الحياة. والمطلع على رسائل باكثير يجد فيها وصفه لشعوره بالوحشة والغربة في وطنه بعد وفاة حبيبته وبيته الذي كان يسميه "دار السلام" فلم يستطع البقاء فهرب من موطن ذكرياته إلى عدن، فالصومال، فالحجاز، فمصر يتلمس السلوى، حتى أضحت "نور" هي رافد شعوره الحياتي ووقود إبداعه وفتيل طموحه، إذ ظل يردد ذكرها صراحة أو ضمنا في أغلب كتاباته ، ففي رسالة بعث بها إلى اخيه من عدن عام 1932 يحدثه فيها عن قصيدة نظمها بمناسبة قيام الثائر "ابن رفاده" خلط فيها بين قضية هذا الثائر وقضيته الشخصية ترد هذه الأبيات: بالليل رفقا بالغريب نبا به وطن ومعشر خطف الزمان حبيبه وأذاقه الملح المصبّر فمضى يجوب الأرض جوبا، علّه يسلو فيؤجر ويقول في آخر رسالته مخاطبا أخاه ومطمئنا له "سترون أني كلما جمحت بي الأفكار إلى الماضي أمسكت عنانها وصرفتها إلى الحاضر ولولا هذا لمت أسفا وكمدا".
وفي رثاء باكثير لوالده في مطولته العينية الرائعة يشير أيضا إلى حالته بعد فراق المحبوبة فيقول في ديوانه "أزهار الربا في شعر الصبا": والموت غاية كل ذي روح فلا يذر البزاة ولا الغراب الأبقعا لا يرحم الرجل الضعيف ولا القوي ولا يخشى الكميّ مدججا ومقنعا ولعل آخر أحزان باكثير الذي أودى بحياته – وفقا للورقة البحثية - هو ما له صلة بذلك التجاهل الأدبي والنقدي إضافة إلى تنكر الأقران وهجمة اليسار والصد والكبح الذي تعرض له باكثير كغيره من الأدباء ذوي الأصالة والالتزام والضمير اليقظ. لم يستطع أن يتحمل هجوم رموز مصر عليه ولم يستطع أن يتحمل تصفيته وهو الذي اختار الكنانة على بلاد الدنيا وعدّها قبلته وموطن هواه، ومات باكثير في القاهرة مخنوقا بآلامه النفسية واحتراقه الداخلي، ومع صمته مات صامدا مؤمنا بأن البقاء للأصلح وأن الأيام كفيلة بإنصافه وبأنه سيأتي اليوم الذي يلف فيه العدم كل الذين خاضوا في دمه.