على بوابة جهاز الأمن السياسي في صنعاء، وقفت "أم محمد" تحمل في يدها كفنًا أبيض، منتظرة جثمان ابنها الذي قضى تحت التعذيب في سجون الحوثيين. كانت صرختها ترتجف وهي تقول للحارس: "افتحوا لي الباب، أنتم أخبرتموني أنه مات، فلماذا ترفضون تسليمه؟ هل تخافون من جثته؟ لماذا تسرقونه مني حتى بعد وفاته؟". تخرج الأم هاتفها المحمول وتري الحارس صورة نجلها محمد العماد، الشاب الثلاثيني الذي كان يبتسم يوم تخرجه من الجامعة، وتقول بصوت متهدّج: "كان يقول لي دائمًا: أمي، ادعي لي.. وكوني راضية عني دائمًا".
من التعذيب إلى الإنكار
توفي محمد في زنزانته تحت الأرض، لكن وفاته كانت صدمة للمحققين الذين ظنوا أن جسده النحيل سيصمد طويلًا أمام التعذيب. تقول والدته إن الحوثيين اتصلوا ليلاً وأبلغوا شقيقه بأن محمد مات ب"سكتة قلبية"، ثم أغلقوا الخط. "ابني لم يمت بسكتة قلبية، جسده كان ممزقًا من التعذيب"، تؤكد الأم. بعد أسبوعين، تلقّت العائلة اتصالًا يطلب منهم الحضور لاستلام الجثة ودفنها "بسرعة وبدون ضجيج".
إذلال لا ينتهي بالموت
جعلت جماعة الحوثي من جثث ضحايا السجون سلاحًا نفسياً جديدًا، وفق شهادات سجناء سابقين وحقوقيين. فتأخير تسليم الجثث، أو منع الدفن، أو فرض شروط مذلة، بات سياسة ممنهجة لإذلال العائلات، ومحاولة طمس الأدلة على جرائم التعذيب، إلى جانب إرهاب بقية السجناء حين يُترك جثمان زميلهم أمامهم لأيام. البعض يرى في ذلك ابتزازًا سياسيًا، فالجثث تُحوَّل إلى "عملة تفاوض": "اسكتوا عن انتهاكاتنا، نُسلّمكم موتاكم".
قصص موجعة
في حي المطار، تجلس "أم زيد" (55 عامًا) تستعيد آخر مكالمة مع ابنها زيد ناصر (32 عامًا) المعتقل بتهمة "التعاون مع العدوان". تقول: "كان هيكلاً عظمياً، صوته ضعيف، ثيابه ممزقة.. وبعد أسبوع أخبرونا أنه مات. تضيف :"طلبنا رؤية الجثة فهددونا بالاختطاف. قالوا لنا: الجثث كثيرة ولا نعرف من هو ابنكم، ولن نسلمها إلا بتوقيع تعهّد بعدم التشريح وعدم فتح مجلس عزاء".
وفي قصة مماثلة، يمسك "حسن" (63 عامًا) بيد حفيدته الصغيرة "سارة" (9 سنوات) التي ما تزال تكتب لوالدها المفقود في دفترها المدرسي: "بابا، أين أنت؟ تعال وخذني، أتمنى أشوفك". والد سارة، "أحمد"، اعتُقل في فبراير 2018، وأُبلغت العائلة بعد شهرين بأنه "انتحر"، لكن الجثة لم تُسلّم حتى اليوم.
أرقام تنزف.. وحقوق غائبة
بحسب تقارير صادرة عن الأممالمتحدة، تم تسجيل 127 حالة وفاة في سجون الحوثيين منذ عام 2015، بينها 43 حالة ناتجة عن التعذيب المباشر. وتؤكد منظمة سام للحقوق والحريات أن العدد الحقيقي يتجاوز 150 سجينًا.
السجين السابق "خالد. ع" يقول ل"الصحوة نت": "كانوا يتركون الجثث في الزنازين أيامًا، حتى نرى مصيرنا. أحد الحراس قال لنا: هؤلاء محظوظون لأنهم ماتوا، أما أنتم فستتمنون الموت".
الناشطة الحقوقية دلال الشيباني وصفت سجون الحوثيين بأنها "منازل للرعب ومسالخ بشرية"، وقالت: "في صنعاء، لا يُسمح للعائلات حتى بالحزن، الموتى أصبحوا رهائن أيضًا، تُدفن أحلام الأمهات مع كل جثة تُحجب عنهم، والعالم يواصل صمته المخزي". واضافت الشيباني: " يبقى السؤال الأهم: لماذا تخاف الجماعة من جثث المعتقلين؟ إذا كانت، كما تزعم، لم تمارس التعذيب، فلمَ تمنع تشريح الجثث؟ ولمَ تُجبر الأهالي على التوقيع على تعهدات غريبة؟