تثير جولة مشاورات مسقط حول الأسرى والمختطفين موجة مخاوف واسعة، مع السماح بمشاركة قيادات حوثية متورطة في التعذيب، ما يضع العملية التفاوضية أمام تساؤلات أخلاقية حادة حول جدواها ومصداقيتها في ظل استمرار الانتهاكات. وتكشف مشاركة الحوثي المدعو عبدالقادر المرتضى ونائبه عن خلل جوهري في منهجية الأممالمتحدة وتناقض صارخ مع المبادئ الإنسانية، خصوصًا بعد إدراج المرتضى على قائمة العقوبات الأمريكية وتوثيق تقرير فريق الخبراء الأممي تورطه في السجون السرية.
وتتزامن هذه الخطوة مع استمرار الحوثيين في الخطف من الشوارع والمنازل والمكاتب، وتكثيف الإخفاء القسري والمحاكمات الصورية، ما يجعل المشاورات بعيدة عن الواقع الميداني الذي يشهد تصعيدًا ممنهجًا ضد المدنيين والمختطفين.
ويرى حقوقيون أن السماح للجناة بتصدر مشهد التفاوض يمثل ضربة قاسية للعدالة، واعتداءً على حقوق الضحايا، ورسالة خطيرة تفيد بأن الإفلات من العقاب ممكن، وأن المنتهكين يمكن أن يتحولوا إلى شركاء تفاوضيين في ملف إنساني بحت.
شرعنة الجناة
أثارت مشاركة الحوثي عبدالقادر المرتضى ونائبه في مشاورات مسقط موجة انتقادات حادة، باعتبار الشخصيتين مدرجتين في تقارير دولية توثق الانتهاكات، وهو ما يجعل إشراكهما تحديًا صريحًا للمعايير الإنساني وقوانين حماية المختطفين.
وكانت الولاياتالمتحدة قد أدرجت اسم عبدالقادر المرتضى على قائمة العقوبات في 9 ديسمبر 2024 لتورطه في انتهاكات جسيمة داخل سجون مليشيت الحوثي، ما يجعل حضوره في مشاورات إنسانية تناقضًا صارخًا مع قواعد العدالة.
وقال الصحفي والمختطف السابق لدى مليشيا الحوثي، عبدالخالق عمران، إن العقوبات الأمريكية المفروضة على عبدالقادر المرتضى دفعته للسعي المحموم لكسر العزلة الدولية، بدءًا بمحاولات السماح للمبعوث الأممي بزيارة صنعاء، وصولًا لمحاولة إعادة فتح مسار مشاورات مسقط.
وأضاف عمران، في تصريحات خاصة ل"الصحوة نت" أن تورط المرتضى ونائبه في جرائم التعذيب والإخفاء القسري مثبت بتقارير أممية وعقوبات دولية، معتبرًا أن تلك المشاركة اعتداء مباشر على قيمة العدالة ومعناها.
ويوثق تقرير فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن الصادر في 2 نوفمبر 2023، ضمن الملحق رقم (80)، إشراف المرتضى على سجون سرية وممارسات التعذيب والإخفاء القسري، ما يجعل إشراكه إهانة مباشرة لقواعد حماية المختطفين.
وتبرز وقائع شخصية تُثبت دوره في الانتهاكات، بينها اعتداؤه المباشر بهراوة حديدية على الصحفي توفيق المنصوري في أغسطس 2022، في اعتداء خلّف إصابة دائمة، ما يضع الأممالمتحدة أمام مسؤولية أخلاقية تجاه الضحايا.
منح المتورطين صفة تفاوضية
يؤكد حقوقيون أن منح مرتكبي التعذيب صفة تفاوضية يمثل انتهاكًا مباشرًا لقيم العدالة، لأنه يقدّم رسائل مقلقة مفادها أن الجناة قادرون على الإفلات من العقاب عبر الظهور بصفة تفاوضية في قضية إنسانية بحتة.
يرى نجيب الشغدري، الأمين العام لمنظمة مساواة للحقوق والحريات، أنه لايمكن الوثوق بجدية طرف يفاوض بيد، ويختطف مواطنًا بريئًا من منزله باليد الأخرى، معتبرًا ذلك ابتزازًا سياسيًا رخيصًا يستغل معاناة البشر، ويجعل استمرار العملية التفاوضية بلا مضمون إنساني حقيقي يؤمّن حقوق المختطفين.
ويؤكد الشغدري، في تصريحات خاصة ل"الصحوة نت" أن جلوس وفد المليشيا على طاولة الحوار في مسقط، بينما تتصدره وجوه متهمة بجرائم تعذيب وحشية، يرسل رسالة قاتمة مفادها أن الجلاد هو من يقرر مصير الضحية، وأن المجتمع الدولي يكافئ المجرم بمنصة تفاوض.
بدوره، أوضح عبدالخالق عمران أن هذه التحركات تهدف لظهور المرتضى كطرف شرعي رغم تورطه الموثق في الانتهاكات، مؤكدًا أن مشاركته هو ونائبه مراد قاسم في مشاورات مسقط تمثل سقوطًا أخلاقيًا فاضحًا وتصدعًا خطيرًا في منظومة العدالة الإنسانية، وإشراكهما يعد إهانة صريحة لضحايا التعذيب.
وقال: "كصحفي نجا من سجون ميليشيا الحوثي بعد ثمان سنوات من الاختطاف والإخفاء القسري وحكم الإعدام، وتعرّض لتعذيب ممنهج على يد المنظومة الإجرامية التي يقودها المرتضى، أؤكد أنّ أي غطاء تفاوضي أو شرعية سياسية تُمنح لهؤلاء المجرمين لا تُغيّر من حقيقتهم".
التناقض مع الواقع
في تناقض صارخ مع الصورة التي تحاول تسويقها في مشاورات مسقط، تواصل مليشيا الحوثي الإرهابية تنفيذ حملات خطف واعتقالات من الشوارع والمنازل والمكاتب، وإصدار أحكام إعدام ومحاكمات صورية، ما يؤكد أن سلوك المليشيا لا يعكس أي نية حقيقية لتخفيف معاناة المدنيين.
وتبرز قضية إخفاء السياسي الأستاذ محمد قحطان بشكل خاص بوصفها دليلًا صارخًا على غياب الجدية لدى مليشيا الحوثي، إذ تجاوز إخفاؤه القسري عشرة أعوام دون الكشف عن مصيره أو السماح بزيارته أو التواصل معه.
في السياق، يوضح الشغدري أن الحديث عن جدوى المفاوضات في هذا الواقع هو شكل من العبث، متسائلًا: كيف يمكن أن نثق بجدية طرف يفاوض بيد، ويختطف أكثر من 300 مواطنًا بريئًا من منازلهم في ذمار وإب في يوم واحد باليد الأخرى؟
ويشير إلى أن المحاكمات الصورية والإخفاء القسري والاعتقالات اليومية المتزامنة مع المشاورات تفرغ العملية التفاوضية من قيمتها، وتحولها إلى غطاء لتبييض صفحة المليشيا، ولشراء الوقت اللازم لارتكاب المزيد من الانتهاكات ضد المختطفين والناشطين والصحفيين.
ضرورة تصحيح التسميات
شدد خبراء حقوق الإنسان على أن ملف الأسرى يجب أن يُدار كقضية حقوقية أولًا بعيدًا عن الحسابات السياسية، لأن تحويله إلى ورقة ضغط يفقده الطابع الإنساني ويُحوّل الضحايا إلى أدوات مساومة.
في هذا الشأن، أوضح الشغدري على أن الخطوة الأولى تبدأ من تصحيح التسميات، ورفض مساواة المختطف المدني الذي أُخذ من بين أطفاله
بأسير الحرب الذي اعتُقل من جبهة القتال، لأن هذا الخلط يمثل الخطيئة الأولى التي تمنح الحوثيين مكسبًا سياسيًا
وأكد ضرورة تمسك الفريق الحكومي والمجتمع الدولي بثلاثة ثوابت أساسية: الفصل التام واعتبار ملف المختطفين قضية إنسانية غير قابلة للمقايضة، ثم المحاسبة لا المصافحة، برفض التعامل مع القيادات المتورطة في التعذيب، باعتبار قبولهم شرعنة ضمنية لجرائمهم القاسية.
وأضاف أن الثابت الثالث هو الشفافية الكاملة، من خلال اشتراط الكشف عن مصير المخفيين قسرًا مثل السياسي محمد قحطان، باعتبار ذلك بادرة حسن نية أساسية قبل الدخول في أي تفاصيل تبادلية، لضمان أن المفاوضات تسير وفق اعتبارات إنسانية واضحة وملزمة.
وشدد الشغدري على ضرورة أن يكون الصوت المرفوع هو صوت الضحية لا صدىً للمفاوضات، وأن كل توقيع لا يضمن كرامة الإنسان اليمني يظل مجرد حبر على ورق، ومجرد تمديد لمعاناة شعب بأكمله في مواجهة القمع والاختطاف.
مطالب بوقف شرعنة الجلادين
أشار الصحفي عبدالخالق عمران إلى أن الجرائم التي ارتكبها المرتضى ستظل تلاحقه أمام القضاء الوطني والدولي، موضحًا أنه وزملاءه الصحفيين "توفيق المنصوري وحارث حميد وأكرم الوليدي" وجّهوا رسالتين إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 2025 للمطالبة بوقف أي تعامل أو تفاوض معه.
كما وجهوا رسالتين إلى المبعوث الأممي في 30 يوليو 2024 و5 ديسمبر 2025، مؤكدين تورط المرتضى ونائبه في تعذيب الصحفيين والمختطفين وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا تسقط
بالتقادم، محذرين من أي محاولة لتمريرهما عبر مسار تفاوضي أممي.
وحمَّل عمران وفد التفاوض الحكومي المسؤولية الكاملة عن قبوله التفاوض مع مجرم حرب مُدان بتعذيب من يفترض أنه يمثلهم، معتبرًا أن التنازل عن حقوق الضحايا لا يصنع سلامًا، بل يخلق سابقة خطيرة تشجع الجلاد على مواصلة جرائمه وتحويل ملف المختطفين لورقة ابتزاز سياسي.
وقال إن تحقيق مكاسب سياسية خارج الإطار الإنساني للملف يمثل تلاعبًا بمعاناة الضحايا، مؤكدًا أن الجرائم التي ارتكبها المرتضى ونائبه بتوجيهات عبدالملك الحوثي لن تسقط بالتقادم، ولن تمنحهما أي مسارات سياسية أو تفاوضية غطاءً أو حصانة، فالحق ثابت والعدالة لا تسقط.
وختم بالتأكيد أن هذا هو عهد الضحايا الذي لا رجعة فيه، وأن المجرمين والجلادين الحوثيين لن يفلتوا من العقاب مهما طال الزمن، وأن يوم العدالة آتٍ، وأن كل من شارك في التعذيب والإخفاء القسري سيواجه مصيره أمام العدالة الوطنية والدولية بلا استثناء.