قبل ثلاث سنوات تقريبا كتبت في مجلة (النور) خاطرة صغيرة بعنوان (مصر التي ليست في خاطري). وباستثناء كلمة (ليست) فالعبارة هي مطلع قصيدة شهيرة للشاعر المصري/ أحمد رامي أنشدتها المطربة الشهيرة (أم كلثوم) في أعقاب نجاح حركة الجيش المصري ضد نظام الملك فاروق والتي عرفت بعد ذلك بثورة 23يوليو! مناسبة الخاطرة كانت الحالة المؤسفة التي وصلت إليها (مصر) في أواخر عهد الرئيس المخلوع/ مبارك.. وجعلتها تتخلف عن ركب الدول الناهضة اقتصاديا وعلميا في آسيا وأمريكا اللاتينية وهي التي كانت دولا متخلفة فقيرة، وبعضها مساحات شاسعة من المستنقعات والغابات في الوقت الذي كانت فيه مصر قد سبقتها بأشواط طويلة في الاقتصاد والعلوم؛ حتى يقال إن مصر يومها كانت أكبر الدول تقدما في إفريقيا باستثناء جنوب إفريقيا وفي آسيا باستثناء اليابان! كان ذلك قبل ستين أو خمسين عاما.. قبل أن يبدأ العد التنازلي لموقع مصر الإقليمي والعالمي لتنتهي في عصر مبارك لتكون أبرز أخبارها الروتينية: انهيار عمارة على ساكنيها. انفجار مواسير المجاري واختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي. غرق سفينة مصرية وموت المئات. مصر تحتل المركز الأول في مرض الكبد الوبائي والفشل الكلوي. هروب رجال أعمال بعد نهب مئات الملايين من البنوك المصرية. الأجهزة الأمنية تلقي القبض على عدد من الإخوان المسلمين بتهمة العمل على إحياء نشاط جماعة محظورة! والخبر الأخير كان رائجا في الأخبار المصرية إلى درجة أنني سمعت مرة عاملا بسيطا في صالون حلاقة يعلق على خبر من هذه النوعية بثته إحدى القنوات فيقول: (ما معاهم إلا هذا الخبر.. كل يوم يمسكوا جماعة من هؤلاء المساكين)! وفي أيام الثورة المصرية العاصفة رفع أحد الشباب المتظاهرين لافتة مكتوب فيها: (ياليت كان مبارك ضرب مصر الضربة الأولى -يقصد في حرب أكتوبر- وراح يحكم إسرائيل؛ كان زمانهم الآن يشربوا من الصرف الصحي!). وعندما راجت أخبار عن موت المخلوع مبارك إكلينيكيا نشرت إحدى الصحف المصرية رسما كاريكاتيريا يصور عائلة مصرية فقيرة يظهر البؤس في هيئة أفرادها والأب يقول: فيها إيه يعني .. ماإحنا كمان طول عمرنا ميتين إكلينيكيا!
&&&& كان من العلامات النهائية لسوء خاتمة عصر مبارك أنه أصرّ –لتمرير مخطط توريث مصر والنظام الجمهوري لابنه- على تزوير الانتخابات النيابية (أكتوبر 2010) تزويرا فاضحا كان هو الشرارة التي هيئت المصريين بعد شهور قليلة للتفاعل مع الحدث التونسي والخروج إلى الساحات للمطالبة برحيل نظام مبارك وزبانيته. وربما كان ذلك التزوير الفاضح هو استدراج رباني فحتى المتعاطفون مع المخلوع لم يستطيعوا –مثلا- أن يهضموا كيف يمكن ألا ينجح مرشح واحد فقط لجماعة الإخوان المسلمين وهم الذين فازوا ب20% من مقاعد مجلس الشعب عام 2005؟! ولا شك أن مصر منذ انفجار ثورة 25يناير 2010 صارت مصر التي تغنى بها الشعراء، وحجزت لنفسها مواقع كبيرة في عقول العرب والمسلمين وخواطرهم، فكانت واسطة العقد؛ خيرها يعمهم وشر مفسديها يضر بهم. ولعل الاهتمام العربي: رسميا وشعبيا بالانتخابات الرئاسية المصرية، والفرحة الشعبية الجنونية التي حدثت الأحد الماضي عند إعلان فوز د. محمد مرسي بمنصب رئيس الجمهورية يؤكد محورية الدور المصري في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، ولعل الله تعالى يجعل مما حدث هذا الأسبوع بداية جديدة لدور مصري رائد: عربيا وإسلاميا وإقليميا.. ويجعلنا نردد قول الشاعر: مصر التي في خاطري وفي دمي
نصر للثوار.. وهزيمة للبقايا والفلول!
بسبب انقطاع الكهرباء؛ هرع كثيرون –وكنت منهم- من منازلهم إلى المحلات التي لديها مولدات كهرباء لمتابعة وقائع المؤتمر الصحفي العالمي –بحق هذه المرة- الذي أعلنت فيه رسميا النتائج (النهائية) للانتخابات الرئاسية (وكلمة: نهائية مهمة لأن النتائج الرسمية (غير النهائية) سبق أن أعلنت في كل اللجان الفرعية التي تزيد عن 13ألف لجنة بناء على تعديل لقانون الانتخابات الرئاسية لجأ إليه البرلمان في قبيل الانتخابات للحد من خطورة مادة أخرى تحصن قرارات لجنة الانتخابات من أي اعتراض وتجعلها نهائية كائنا ما كانت! وصار دور اللجنة العليا يقتصر فقط على مراجعة عمليات الرصد والجمع، وفحص الطعون إن وجدت تم إعلان النتيجة الرسمية بصفتها النهائية). الشاهد هنا أن المحل الذي لجأت إليه لمتابعة المؤتمر الصحفي كان فيه أشخاص عديدون؛ منهم الطالب، والعامل، والممرض والطبيب... وكلهم كان يتابع التلفاز بلهفة شديدة، وكان ملفتا للنظر هذا الوعي السياسي الذي يتمتعون به وهم يتابعون نص البيان القانوني باهتمام يشابه ما يحدث في مباريات كرة القدم العالمية، والذي يمكن اعتباره ثمرة لثورات الربيع العربي، وباستثناء واحد كان متلجلجا في تأييده فإن الآخرين كانوا يتعاطفون مع د. محمد مرسي بدرجة بالغة من التأثر والحماس، وبان من خلال تعليقاتهم أن تأثرهم هذا لم يكن خاليا من الذكاء في فهم المحاذير والتوقعات التي كانت تنذر باحتمال الانقلاب على النتائج الرسمية غير النهائية بأي حجة تافهة! من المثير للتأمل؛ أن العرب ومنهم اليمنيون الذين أيدوا د.مرسي هم من مؤيدي ثورات الربيع العربي باختلاف أطيافهم باستثناء قلة قليلة أمرضها أن يصل (إسلامي) لمنصب رئاسة الجمهورية بإرادة شعبية فانحازت لمرشح الدولة العسكرية المستبدة الفاسدة بدعوى رفض الدولة الدينية لمصلحة الدولة المدنية (عافاها الله منهم)؛ حتى سخر منهم د.سيف الدين عبد الفتاح في برنامج (على مسؤوليتي) في قناة الجزيرة مباشر مصر وأسماهم بتيار: الدولة المدنية ذات المرجعية العسكرية! ( ألا يذكر هذا بتيار الدولة المدنية في اليمن المعادي للإصلاح بحجة أنه يريد إقامة دولة دينية ثم هم أشد حلفاء الحوثيين!). وفي المقابل يمكن أن نلاحظ في إعلام بقايا النظام السابق الحماس لمرشح فلول نظام المخلوع/ مبارك وكراهية المرشح الإسلامي وممثل الثورة المصرية، فالقلوب عند بعضها، وكما كان يقال: إن حلق جارك بليت.. فيبدو أن (الخبرة) قضوا مساء الأحد كله وهم.. يبلون! حتى تهنئة الرئيس اليمني السابق للدكتور مرسي جاءت على طريقة مؤتمرات عبده الجندي.. ويسجل لها أنها أول تهنئة من نوعها لا تتم عبر برقية أو مكالمة هاتفية بل عبر تصريح صحفي إن صح أن الرجل كان لديه نفس بعد إعلان النتيجة للكلام!
الورقة الطائفية!
لم يكن كثيرون يصدقون أن فلول نظام مبارك سيلعبون بالورقة الطائفية لإثارة مخاوف المصريين المسيحيين ضد المرشح الإسلامي.. وللأسف الشديد فإن جهات قبطية أصرت على أن تتجاهل كل التطمينات التي أعلنها الإسلاميون تجاه مواطنيهم المسيحيين –وحتى الملحدين والمشخلعين- في أن الدولة المصرية الجديدة ستكون للجميع بصرف النظر عن الدين. وفي المؤتمر الصحفي كشف رئيس لجنة الانتخابات الرئاسية أن مرشح فلول المخلوع مبارك قدم عدة طعون على نتائج بعض اللجان الفرعية بحجة أن المسيحيين منعوا أو امتنعوا عن الاقتراع بسبب تهديدات وجهت إليهم باعتبار أنهم مؤيدون لمرشح نظام ميارك، وبدليل وجود لجان في مناطق يوجد فيها مسيحيون إما لم يشارك فيها أحد أو شارك فيها ناخب واحد فقط.. وأكد رئيس اللجنة أن فحوصاتهم كشفت أن اللجان الثلاثة المشار إليها هي لجان نسائية، وأن الأمر سبق أن حدث في الجولة الأولى.. ثم كانت المفاجأة أن معظم المسجلات في اللجنة هن نساء مسلمات وليس مسيحيات! وفي لجان أخرى طعن الفلول بحدوث تهديدات منعت المسيحيين من المشاركة ثم تأكد بعد الفحص أن أعداد المشاركين في الجولة الثانية كانت أكثر من عدد المشاركين في الجولة الأولى! بالمناسبة؛ رغم أن تعاطف لجنة الانتخابات الرئاسية في مصر مع مرشح الفلول ولمرحلة مبارك؛ إلا أن إدارتها للجولة الثانية –رغم بعض العيوب- لا يمكن مقارنته باللجان الانتخابية العليا في اليمن في العهد الماضي.. فشتان بين أداء اللجنة المصرية واللجان اليمنية التي كان أعضاؤها يتصرفون وكأنهم عكفة في اللجنة الدائمة، ويتسابقون لإعلان نتائج مزورة لإرضاء الرئيس السابق وإدخال السرور على قلبه بطريقة مهينة لا تحترم الذات قبل الآخرين!
الخاسرون.. كثر!
لم يخسر فلول نظام مبارك ومرشحهم أحمد شفيق في الانتخابات المصرية؛ فهناك آخرون خسروا شرفهم السياسي؛ بعد أن سقطت عنهم ورقة التوت الثورية والمدنية، منهم أحزاب أراقت ماء وجهها الثوري على قارعة الطريق وأيدت مرشحا عسكريا فاسدا تطارده الدعاوى في المحاكم كراهية في مرشح إسلامي.. ومنهم شخصيات ديناصورية مثل رفعت السعيد ريس حزب التجمع اليساري الذي كان الأكثر جنونا في تأييد مرشح الفلول. ولو ظل هذا الرجل على رأس حزب التجمع بعد الآن فهذا دليل على أن اليسار الماركسي المصري لا ينفع معه الإصلاح ولا حتى الترقيع بعد أن صار شيئا لا يوجد له قطع غيار على حد تعبير مصري في شبكة الإنترنت! بعض الشخصيات التي كانت ذات ماضٍ محترم في مواجهة نظام مبارك سقطت في حفرة سوء التوفيق وهي تقيم الدنيا ولا تقعدها بسبب إعلان حملة د.محمد مرسي لنتائج الانتخابات وعدم انتظار الإعلان النهائي من اللجنة العليا، رغم أن تلك النتائج أعلنها القضاة رسميا في اللجان الفرعية وسلموا لكل مندوب شهادة رسمية بالنتيجة التفصيلية.. وما صنعته حملة المرشح الإسلامي فقط هو تجميع الأرقام وإعلان المجموع النهائي لكل محافظة ثم لمصر كلها، وهو نفس ما حدث في الجولة الأولى دون أن يعترض عليه أحد يومها. ومن المؤسف حقا أن يقع في مثل هذه السقطة شخصيات مثل د.إبراهيم سعد الدين (الذي حبسه مبارك وعاش الفترة الماضية هاربا في الخارج) ود.ضياء رشوان الباحث المعروف الذي أسقطوه في انتخابات سابقة.. وغيرهما من الذين كان عندهم أمل إبليس في إمكانية حدوث معجزة تزويرية ويعلن فوز شفيق.. هؤلاء هاجوا وماجوا وكأن النتائج المعلنة من الأسرار العسكرية أو خطر على الأمن القومي المصري لا يجب أن يعرفها أحد حتى تعلنها اللجنة العليا.. وكأن هؤلاء: لم يتابعوا انتخابات بالمرة ولو في أمريكا عندما تعلن النتائج تباعا على القنوات الفضائية قبل إعلانها رسميا! من الظرائف في هذا السياق؛ أن (الثوار) المؤيدين لمرشح فلول مبارك (يطلق عليهم في مصر: فلول بشرطة تمييزا لهم عن الفلول الأصليين) غضبوا مما وصفوه تدخلا أمريكيا في الشؤون الداخلية المصرية وجدوه في تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين الذين دعوا المجلس العسكري الحاكم لتسليم السلطة للفائز في الانتخابات واعتبروا أن هذه الدعوة تعني تسليم السلطو للمرشح الإسلامي! حتى اتحاد المنظمات القبطية في أوربا ندد بالتدخل الأمريكي ونسي أنهم ظلوا طوال السنوات الماضية يطالبون الغرب بالتدخل لإنقاذ المسيحيين في مصر من الإبادة قبل أن يكتشفوا أن التدخل الغربي حرام ويضر بالسيادة المصرية! الأمر لم يخل من الفكاهة فالشيوعي المزمن رفعت السعيد حليف مبارك حتى آخر نفس (حذر) أمريكا وكأنه (خروشوف) في زمانه.. مع أنه في الحقيقة لا يرقى حتى إلى مستوى.. القذافي!
من السجون إلى قصر عابدين!
(مبارك من المنصة إلى الميدان) هو عنوان كتاب الصحفي المصري الشهير/ محمد حسنين هيكل الذي شرشح فيه شخصية مبارك شرشحة يبدو أمامها كتابه (خريف الغضب) وكأنه قصيدة مدح في الرئيس السابق/ أنور السادات! الآن يمكن لمن يريد أن يعنون كتاباته عن فوز الإخوان ووصول أحد رموزهم إلى رئاسة الجمهورية أن يقول: (الإخوان: من السجون إلى قصر عابدين)! شخصيا.. تمنيت لو أرى أثر فوز د.مرسي في وجوه مبارك وأعوانه من الفلول الأصليين والفلول بشرطة ليس من باب الشماتة ولكن لأقول: عقبال عندنا!