كثيراً ما يفضل الإنسان الرتابة ويخشى التغيير, لأنه لا يدري هل سيكون الجديد أفضل من الواقع المعروف له, أم ستتحول الأمور نحو الأسوأ, وكذا الحال بالنسبة للاختيار بين الفائدة السهلة والغنيمة المكلفة, حيث يرى الإنسان بنظره القصير أن الأُولى قريبة ولا تحتاج إلى مغامرة أو مجازفة, بينما ربما قادته الثانية نحو الخسارة والهلكة! لكن هذه ليست قاعدة مضطردة ولا صحيحة على الإطلاق, فربما ظن المرء النجاة فيما سيؤدي به نحو الهلاك, وقد يتحقق له الفوز والظفر حين يقتحم المخاطر ويغالب الأهوال, ويركب الصعاب فيحوز السبق ويتجنب مخاطر أعظم, ويخلص من شرور أكبر!! في غزوة بدر وعد الله المؤمنين أن تكون لهم إحدى الطائفتين: إما القافلة بما فيها من عروض التجارة وما تحمله من الأموال والنفائس؛ أو الانتصار على كفار قريش في أول مواجهة بين جيش الإسلام والمشركين, وما سيتركه ذلك من أثر عظيم بين العرب وعلى مسيرة دعوة الإسلام على مدار الزمان, ورغم ما كان يحمله جيل الصحابة – رضوان الله عليهم - من الإيمان واليقين, لاسيما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم, فقد كانت نفوسهم تتوق للربح القريب والسهل المتمثل في قافلة أبي سفيان التجارية, وكانوا لايريدون مواجهة ذات الشوكة والاشتباك مع صناديد قريش الذين حاربوهم وأخرجوهم من ديارهم, وقد وصف الله حالة الضعف البشري عند الصحابة فقال تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم, وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم, ويريد الله أن يحقّ الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين". سارت الأمور حسب ما أراد الله, وانتصرت القلة المؤمنة المستضعفة على الكثرة الكافرة المستكبرة, ولا وجه للمقارنة بين مكسب الاستيلاء على القافلة وذلك الانتصار العظيم في غزوة بدر الكبرى, والتي صارت فرقاناً بين الحق والباطل إلى يوم الدين, فآثارها العظيمة ماتزال تُمدّ المؤمنين بزاد الإيمان واليقين والثبات, وتُلهم الأجيال معاني التضحية والفداء, وتؤكد لهم أن الله معهم وناصرهم طالما ظلّوا صادقين في إيمانهم, مخلصين في أعمالهم, متجردين من حظوظ أنفسهم!! كم نحن اليوم بحاجة إلى إعادة النظر في واقعنا, والتصرف بحزم ومسؤولية, ودون حساب كبير للمخاوف والمحاذير التي ربما تكون المبالغة فيها سبباً في الضعف وذهاب القوة, ومدعاة للفوضى والاضطراب واستفحال الظلم والبغي والعدوان, وربما تؤدي إلى الانكسار والهزائم التي كان تجنبها متوقفاً على الحزم ورباطة الجأش ومواجهة الباطل الذي سيذوي ويأفل نجمه بمجرد ثبات أصحاب الحق وتخلصهم من الوهن وحب الدنيا وكراهية الموت!! دروس غزوة بدر كثيرة, وهي تشير أن الإنسان يظل بين خيارات الخوف والشجاعة, والتردد والإقدام, والحرص على عاجل الغنيمة والنظرة البعيدة للمكاسب الباقية, وحتى يقطع الله دابر الخلاف على غنائم المعركة حسم الله أمرها, وأبعد المسلمين المجاهدين من الانشغال بتوزيعها, فجعل أمرها لله ورسوله, لتبقى تلك الصورة المشرقة الوضيئة النبيلة للتضحية والثبات والمصابرة التي رسمتها الفئة المؤمنة المجاهدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الملحمة العظيمة.. التعامل مع الواقع لايعني التفريط بالحق, ومواجهة الظلم والعدوان بالحزم والحسم قد يكون عين الحكمة, ومراعاة المشاعر يجب أن لاتسمح للأغرار أن يعيثوا في الأرض فساداً, واختيار ذات الشوكة قد يكون الأقل خسارة من السير في طرق مفروشة بالورود لكنها تقود إلى مفازة مملوءة بالأشواك...