عقب نجاح ثورة 25 يناير 2011 في الإطاحة بنظام المخلوع "مبارك" خلال ثمانية عشر يومًا من الاحتجاجات والحشود السلمية، أفاقت التيارات والأحزاب العلمانية في مصر على صدمة كبيرة وكارثة أذهلتهم، عندما اكتشفوا أن ثورة يناير قامت أساسًا ضدهم؛ لأنهم هم من يساندون فعليًّا نظام المخلوع! فبدءوا منذ اللحظات الأولى في الصراخ والعويل والزعم بأن الإسلاميين ركبوا الثورة وأنهم يحاولون خطفها، واجتمعت هذه التيارات رغم اختلافاتها الأيديولوجية على هدف واحد هو: كيفية منع الإسلاميين من الوصول إلى السلطة بأي ثمن!. الخطوة الأولى كانت الوقوف بشدة ضد الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي تم في 19 مارس 2011، وقيامهم بحملة هيسترية استخدمت الحشد الإعلامي والدعائي لرفض هذا الاستفتاء تحت مقولة خادعة هي: "الدستور أولاً"، وعندما رفض الشعب الاستجابة لهم، رغم الأموال التي تكبدوها، وصوت ب77.2% لصالح نعم في مقابل 22.8% لصالح لا، أسقط في أيديهم، فبدءوا في حملة أخرى تطالب بمد الفترة الإنتقالية إلى عامين بدلاً من 6 أشهر، بدعوى أن جماعة الإخوان المسلمين وحدها هي التي استعدت لدخول الانتخابات، وأن بقية الأحزاب والتيارات والحركات السياسية في حاجة إلى وقت أطول حتى تستعد أكثر.
وفي كتابه الذي صدر مؤخرًا "من أوراق ثورة 25 يناير"، فسر المؤرخ الكبير المستشار طارق البشري جانبا من هذا المشهد الحزين، الذي جرى تنفيذه في مصر، عندما قال "إن الليبراليين الذين طرحوا فكرة "الدستور أولاً" كانوا يخشون ما تسفر عنه الانتخابات من أغلبيات كبيرة للإسلاميين، وهذه الخشية كانت ستتحقق، سواء جرت انتخابات حرة للجمعية التأسيسية لمواطنين عاديين، أو جرت لمهنيين".
ويضيف "والحقيقة أن هذا الاتجاه الذي كان يطالب ب"الدستور أولاً" كان يفتقد المنطق، ليس عن عدم معرفة، بقدر ما جاء بسبب التخوف من الديمقراطية؛ لأنهم ليسوا بذوي تأييد شعبي، وهم يخافون دائمًا من مسألة الرجوع إلى الشعب؛ لأنهم يعرفون مقدمًا أنهم ليسوا بذوي تأييد لديه"، فالمسألة إذن تكمن في محاولة الأحزاب والتيارات الليبرالية والعلمانية فرض رؤيتها على الجميع، واختيار لجنة إعداد الدستور من التيارات العلمانية بعيدًا عن مشاركة الإسلاميين، وهو ما حدث بعد الانقلاب العسكري!.
وعندما قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يدير الفترة الانتقالية، إجراء المرحلة الأولى من الإنتخابات في 28 من نوفمبر 2011 بعد ضغوط شعبية وإسلامية شديدة، كان قد مضى من المرحلة الانتقالية 9 أشهر كاملة وحاولت الأحزاب العلمانية، التي بدأت بالتنسيق الكامل مع العسكر، بذل كل جهد من أجل منع إجراء الانتخابات في موعدها، أو على الأقل تأجيلها.
ولعلكم تذكرون أن أحداث العنف في شارع "محمد محمود" وقعت قبل حوالي أسبوع فقط من إجراء المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية؛ بهدف إشعال التوتر السياسي الذي يؤدي إلى إلغاء الانتخابات، ثم جاءت بعدها أحداث شارع "مجلس الوزراء"، لتحاول من جديد الضغط من أجل وقف انتخابات المرحلة الثانية، وانتشرت في تلك الفترة تصريحات رموز علمانية وليبرالية معروفة، نشرتها الصحف الرسمية وتبنتها الفضائيات الخاصة، تحذر من أن "إجراء الانتخابات في هذه الظروف سوف يجعل الدماء تسيل أنهارا في شوارع مصر!"، وعندما فشلوا في وقف أو تأجيل الانتخابات، التي يعلمون تماما تدني حظوظهم فيها إلى أدني حد، صبوا جام غضبهم على أول برلمان شعبي حقيقي بعد الثورة، بسبب حصول القوى الإسلامية على نحو ثلاثة أرباع مقاعده، وتواصل التحريض عليه ليل نهار، حتى نجحوا في إصدار حكم سياسي من المحكمة الدستورية بحل المجلس!.
إذن توتير الأجواء العامة، وإشاعة حالة من الفوضى الأمنية، وترهيب الشعب من إجراء الانتخابات، واستخدام البلطجة والعنف في التخريب، كان جزءً أصيلا من أجندة "الخائفين من الديمقراطية"، لأنهم لم يتخيلوا إمكانية إزاحتهم ومشاركة الإسلاميين في السلطة، ولم يتوقعوا أن يأتي اليوم الذي يفرض فيه الشعب اختياره الحر على الجميع، وبالتالي أصبحوا في وضع محرج من الناحية السياسية؛ لأنهم تنكروا للإطار الفكري للدولة المدنية التي صدعوا رءوسنا بالحديث عنها، وهو سيادة وحكم الشعب، واحترام نتائج الصندوق الانتخابي، والتداول السلمي للسلطة.
ويقول البشري في كتابه "إن هناك من يصر على أن يستبعد الشعب المصري من أي شأن يكون له صلة برسم مصير هذه الأمة ووضع نظمها السياسية، ويصر على استبعاد الإرادة الشعبية من أي أثر فعال يكون لها في تحديد مستقبل مصر، نلحظ ذلك واضحًا في هذا الصخب الشديد الذي تثيره الأقلام والألسن في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية"، وهذا في رأيي هو لب الأزمة الحقيقية التي تعاني منها مصر الآن: عدم احترام العلمانيين لإرادة الشعب، والنزول على اختياره الحر النزيه.
"الخائفون من الديمقراطية" أو بمعنى أكثر وضوحًا وتحديدًا "الكارهون والرافضون للديمقراطية" على استعداد للعمل بكل وضوح مع أي فصيل أو قوة مسيطرة، مهما كانت جرائمها وفسادها، من أجل حرمان هذا الشعب من استكمال طريق الحرية والعدالة وسيادة القانون، وبذل ما يستطيعون من مال وجهد ونفوذ، بهدف إجهاض حلم المصريين بعد الثورة، في تحقيق النهضة والأمان والاستقرار والحياة الكريمة، حتى لو أدى هذا إلى التحالف مع شيطان العسكر أو قوى الفساد، والتنسيق مع الأعداء (أمريكا والغرب)، والتعاون مع من لا يريدون لمصر خيرًا (بعض حكام الخليج)، لكن هؤلاء في النهاية عاجزون وفاشلون ولا يقدمون رؤية يمكن أن تعيش في المستقبل.
خيانة العلمانيين للديمقراطية، ورفضهم الخضوع لإرادة الشعب المصري بعد ثورة يناير، وتحالفهم مع أعداء الثورة لإسقاط الشرعية السياسية، لأول رئيس مصري مدني منتخب، هو دليل واضح على أفول هذه الحقبة المريرة من تاريخنا، وبداية عهد جديد بإذن الله.
لقد نجح المنهج الإقصائي في عزل المشروع العلماني عن جمهور الناخبين، وأيضا الإصرار على قيادة الوطن بالإكراه والاستبداد والتسلط، هو ما يدفع التيار العلماني إلى كراهية ورفض المسار الديمقراطي من الناحية الفعلية، وعدم قبول حكم الغالبية العظمى من الشعب، والسخرية ممن يتحدثون عن ضرورة الاحتكام إلى الصندوق الانتخابي، مع أن الصندوق هو أيقونة الديمقراطية الغربية، والطريق الحضاري للتغيير السلمي، والآلية البشرية الأكثر احتراما للوصول إلى السلطة.
لقد تعايش العلمانيون بكل أطيافهم (يساريون وقوميون وليبراليون .) مع الأنظمة السياسية السابقة في مصر كلها، بل والتحموا بها في مواقع المسئولية، وعبروا عنها دائمًا، ودافعوا عمليًّا عن استمرارها، واستفادوا منها بكل صور الاستفادة؛ لأن كثيرين من هؤلاء ارتضوا أن يكونوا ضمن الحظيرة الثقافية أو السياسية التي فتحها النظام السابق، وما زال أغلبهم يمارس نفس الدور، وهو تجاهل رأي الشعب ورفض اختياراته الحرة، وعدم السماح له بأن يستمتع بهذه الحرية التي دفع من أجلها الدماء الزكية.
ارتماء التيارات العلمانية بكل أطيافها في أحضان الدولة العسكرية الفاشية في مصر الآن، وقبولهم بل وارتياحهم لتولي السلطة من فوق دبابات العسكر، وقدرتهم الهائلة على "شيطنة" خصومهم من أبناء التيار الإسلامي في وسائل الإعلام، وتحريضهم العسكر على المزيد من قمع خصومهم وإرهابهم، بل وتبرير قتلهم رغم سلميتهم، هو دليل إفلاس وعجز وأفول وذبول هذه التيارات، خصوصا في أكبر معاقلهم وأقوى محاضنهم (مصر).
وما لم يطور بعض المفكرين الواعين من قادة هذه التيارات رؤية مستقبلية تقبل بالآخر، وترضى بالمسار الديمقراطي، وتشارك في المنافسة السياسية بشرف، وترفض الاستبداد وحكم العسكر، وتبتعد عن الصدام مع هوية الأمة، فإنه لا أمل لديها في المستقبل. *اخوان اون لاين