بدأت فكرة في الخيال ثم تعززت مع التفكير بها إلى أن أصبحت قراراً فكان السفر إلى محافظة الجوف (143 كيلو عن صنعاء), في مهمة عمل صحفية لا تخلو من رغبة شخصية في اكتشاف المجهول والغائب عن المحافظة في وسائل الإعلام، كانت الجوف قبل زيارتها محافظة الحروب والثأرات وكل ما يتعلق بالعنف نتيجة تكريس هذه الصورة في وسائل الإعلام ولعدم معرفتي بمعلومات كافية عنها,لكن الصورة تغيرت تماماً بمجرد وصولي إليها برفقة زملاء جمعتنا شغف المهنة والسفر واكتشاف الجديد. من يعرف أن الجوف موطن الدويلات اليمنية القديمة؟ربما قلة من الناس يعرفون ذلك,وهو نفس الحال مع كون الجوف غنية بمواردها وثرواتها المعدنية والزراعية، إذا هي فرصة لأن ترافقني في هذه الرحلة الجميلة,التي ستعرف فيها أن مملكة معين التي تأسست في النصف الثاني قبل الميلاد استوطنت الجوف لتميزها بموقع زراعي يوفر لسكانها الاستقرار. مملكة البخور، كما اشتهرت قديماً عاصمتها السياسية "قرناو",وما أدراك ما قرناو,غير أنك إن زرتها ستحزن لتحول معالمها التاريخية إلى بقايا أطلال تشكو الهجران والإهمال وظلم البشر الذين ينهبون كنوزها والطبيعة التي تهاجمها بين الحين والآخر بكثبانها الرملية، شُيّدت مدينة"قرناو" على ربوة صناعية من التراب لحمايتها من أضرار السيول الجارفة، ومن أجل حمايتها عند الحروب،ورغم الكنوز التاريخية في المدينة وغيرها من مدن الجوف إلا أنها لم تتعرض لمسوحات وتنقيبات أثرية وعلمية عدا الحفريات المستمرة التي يقوم بها أشخاص بحثاً عن قطعة أثرية لبيعها. أما مدينة براقش التي عرفت قديماً في النقوش المسندية باسم"يثل", فقد كانت من المدن الهامة، نظراً لوقوعها على طريق القوافل التجارية المحملة بالعطور والطيب والتوابل، والتي تحملها إلى بلاد الشام، مروراً بهذه المدينة. وبنيت المدينة محاطة بأسوار منيعة عليها أبراج للحماية والمراقبة من كل الاتجاهات,وتشير الدراسات التاريخية إلى أن هذه المدينة كانت واحدة من المدن التي أحتلها القائد "اليس غاليوس" أحد قادة الامبراطور الروماني "أغسطس" خلال حملته العسكرية على اليمن بين العامين (25-24) قبل الميلاد،بعد أن مرت بفترة انحطاط وضعف. ومن المدن التاريخية مدينة البيضاء التي كانت تعرف قديما باسم "نشق" والتي مازالت معالمها ومعابدها باقية حتى اليوم,وهناك مدينة السوداء والتي كانت تعرف قديماً باسم "نشأن" وقد اشتهرت السوداء بصناعة المعادن,وهي المدينة التي يوجد فيها مجموعة من المعابد، يطلق عليها سكان المنطقة معابد بنات عاد، لأن أعمدة المعابد مزخرفة بزخارف غاية في الروعة والجمال، تمثل أشكالاً آدمية لنساء وحيوانية، تمثل وعولاً وأيضاً أشكال هندسية تضاهي معابد بلاد الرافدين، غير أن مدينة السوداء التي تقع ضمن مديرية الحزم عاصمة الجوف اليوم أصبحت أثراً بعد عين إلا من بقايا أنقاض مبانٍ ومعابد مدمرة تتعرض يومياً للنبش والحفر لاستخراج كنوزها وسرقتها وبيعها في الأسواق المحلية، فالمعابد تم تحطيمها والاستفادة من حجارتها للبناء وما تبقى منها آيل للسقوط مع مرور الزمن وربما تُعجّل الكثبان الرملية في الصحراء بطمرها، وأنت تتجول في تلك المنطقة يُخيّل إليك أنك تقف على أطلال مقبرة قديمة لم يعد منها إلا أحجار ظاهرة بشكل محدود وهي مدفونة في وسط الرمال. انتهت رحلتنا للمعالم السياحية والآن جاء دور الجانب الزراعي الذي تتميز به الجوف نظراً لخصوبة تربتها ولوفرة المياه وكان بالإمكان تحويل صحرائها الشاسعة إلى حدائق غناء من مزارع الفواكه والخضروات والحبوب. تعد الزراعة وتربية الحيوانات النشاط الرئيس لسكان المحافظة,حيث تشكل المحاصيل الزراعية ما نسبته (4,6%)من إجمالي الإنتاج الزراعي في اليمن,ومن أهم تلك المحاصيل الحبوب والخضروات والفواكه، لكن اللغز الذي يحتاج لمن يفك شفرته هو ذاك المتعلق بالأسباب التي حالت دون استمرار أعمال التنقيب عن النفط والغاز رغم الإعلان عن الاستكشافات الأولية من قبل شركة"هنت"الأمريكية مطلع ثمانينيات القرن الماضي,وكان يُفترض أن تصل الاستكشافات إلى مرحلة الإنتاج ثم التصدير لتستفيد الجوف من ثرواتها غير أن ثمة أسباب سياسية وقفت بالمرصاد. محافظ الجوف الأستاذ محمد سالم الشريف قدم لنا صورة عن واقع المحافظة وحالة التهميش التي تعيشها وأفصح عن جوانب رؤيته لتطويرها والنهوض بها رغم جملة التحديات,بيد أن حنكته الإدارية وعلاقاته الاجتماعية المتميزة مع السكان ورغبته في النجاح ستؤتي ثمارها وستغير حال المحافظة إلى الأفضل وهي في طريقها لطي صفحة الماضي. مدير أمن المحافظة العميد محمد العديني رسم لنا هو الآخر صورة عن الخارطة الأمنية وغياب الدولة وقلة إمكانيات الأمن والتحديات التي تقف في طريقه لبسط نفوذ الدولة وأهمها نقاط المليشيات المسلحة. يُحسب للعديني والشريف ضبط أخطر عصابات السرقة مع ما بحوزتها من خلال حملة أمنية قيل لنا إنها الأولى من نوعها التي تخرج في مهمة كهذه في تاريخ المحافظة في الجوف يقابلك الناس بالترحاب وكرم الضيافة ومرافقتك للتجول ومساعدتك بما تحتاج وهذا ما يجعلك تنسى أن المحافظة لا يوجد بها فندق والمطاعم واحد وقس على ذلك بقية الخدمات، ينبغي أن تصحح الصورة النمطية المغلوطة والسائدة عند الكثيرين أن الجوف محافظة غير قابلة للتطوير أو أنها ليست مكاناً للعيش الآمن, والحقيقة أن سكانها مظلومون ومحرمون من أبسط حقوقهم تنموياً وتعليمياً وصحياً مقارنة مع أبناء المحافظات الأخرى ومع ذلك لا يشتكون ولا يقايضون الدولة بالتخلي عنها ولولا وطنيتهم لما كانت الجوف تابعة للدولة في ظل رغبة وهدف الحوثي الدائم منذ 2011م للسيطرة عليها لموقعها الاستراتيجي وثرواتها الغنية.