لقدْ فعلَها التونسيُّون إذنْ، وأعادوا الاعتبارَ لشاعرٍ من أجملِ الأصواتِ الشعريَّةِ التي أشرقتْ عندَ مطلعِ القرنِ الفائتِ، ولقصيدةٍ تعدُّ من أكثرِ النصوصِ الشعريةِ حضوراً في الذاكرةِ الثوريةِ العربيةِ.. نعمْ لقدْ أعادوا قراءةَ قصيدةِ أبي القاسم الشابِّي (إرادةُ الحياة)، ولكنَّها قراءةٌ من نمطٍ آخرَ يصبحُ فيها التهجِّي نوعاً من الكفاحِ المدهشِ، ويصبحُ فيها الوزنُ إرادةً جماعيَّةً للتغييرِ، وتصبحُ فيها القافيةُ استجابةَ الأقدارِ لهذا التغييرِ.. ذلك أنَّ الله في عليائهِ قد كتبَ على نفسِهِ أنْ لا يغيِّرَ ما بقومٍ حتَّى يغيِّروا ما بأنفسِهم. إذا الشعب يوما أرداد الحياة فلا بدَّ أن يستجيب القدرْ ولا بدَّ لليل أن ينجلي ولا بدَّ للقيد أن ينكسر على مدار شهر مضى شكل هذان البيتان لازمةً أدبية لكل التقارير الخبرية والنقاشات التي واكبت الحدث التونسي الرائع، لقد كانا بحق عنوانا لثورة شعبية تجري على أرض تونس الخضراء، صنعها الشباب، وتناغمت فيها الجماهير بمختلف أطيافها الفكرية والسياسية في خندق واحد هو خندق التغيير، اتفقوا جميعا على أن يحضر الوطن، وتغيب كل الولاءات والشعارات الضيقة، كما اتفقوا على أن يتناسوا كل خلافاتهم الهامشية، فليس ثمة وقت لسفاسف الأمور، فاللحظة حاسمة، والروح الجماعية لا تصنعها تنافر الإرادات، ولا تشتت العزائم، ولكنها مرهونة بتوافق خلاق ينتظم الأفراد في شعور واحد ليصبحوا في مجموعهم شعبا يريدُ.. ومَنْ ذا يقف دون إرادة هذا شأنها؟ ولذلك فقد كانوا مدهشين بصورة لا يصفها حقَّ وصفها إلا بيتا الشابي.. الأبِ الروحي لهذه الثورة الشعبية. إن النصوص الشعرية العظيمة لا تموت، وكذلك كانت قصيدة (إرادة الحياة) التي كتبها شاب في العشرينيات من عمره، قال كلمته في فضاء الشعر، ومضى إلى سكينة الأبد الكبير كما يشير هو إلى ذلك في بعض شعره، لكنَّ روحه الوثابة ظلّت منارا لشعبه، يسترشدونها حادية طموح وداعية كرامة، ولقد خُيِّل إليَّ وأنا أشاهد الشباب التونسي عبر عدد من القنوات الفضائية ينسجون من دمائهم موعدا لصباح قادم أن الشاعر الشابي كان بينهم بقامته النحيلة الفارعة، يشد عزم هذا، ويربت على كتف هذا، ويشب فيهم جميعا الطموح إلى حياة لا يكدرها عسف الطغاة، ولا جبروت الظالمين، والحق أنَّ أحدا ممن صنعوا هذا التغيير لم يكتشف قصيدة الشابي صدفة، ولا أنهم اختاروها شعارا لثورتهم المدهشة، ولكنَّ إرادة التغيير التي تتضمنها هذه القصيدة كانت ثقافة تتنامى على مدى عقود، وتعتّقت فيهم سلوكا عفويا، خالط الأمشاج، وسرى في العروق، وظلت دوائرها تتسع وعيا ثوريا، ويقينا يشكل الوجدان الجمعي للشعب التونسي حتى وصل إلى اللحظة التي يمتلك فيها الشعب خياره في التغيير. ومثلما بدأت أرادة الحياة في قصيدة (إرادة الحياة) بذرة في ظلمات الأرض تحمل ذكرى عهد جليل، ثم مرت الفصول والمواسم حتى صدّعت الأرض من فوقها وخرجت إلى عالم النور، بدأت ثورة الشباب أمشاج وعي تنامى بفعل الإرادة الحية حتى تصدعت الأرض، وخرجت الثورة إلى عالم الحياة والأحياء لتردد على مسامع الوجود أنْ: لا بدَّ لليلِ الظلمِ أن ينجلي، ولا بدَّ للقيد أن ينكسر. ولقد انكسر القيد، وتشظى بعيدا باحثا عن مقلب يتوارى فيه، فلفظته الأمكنة والأزمنة خاسئا ذليلا، ونهض المستضعفون من قبورهم صانعين إرادة الحياة التي أشارت إليها ترنيمة الشابي الخالدة، وأكدت عليها بتعابير مختلفة كان من أجملها: ومَن لا يحبُّ صعودَ الجبالِ يعشْ أبد الهر بينَ الحفرْ هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحياةَ ويحتقرُ الميْتَ مهما كبرْ فلا الأفقُ يحضنُ ميتَ الطيورِ ولا النحل يجني موات الزهرْ إذا طمحتْ للحياة النفوس فلا بدَّ أن يستجيب القدرْ نعم لا مكان للموتى في قيامة الثائرين، ولا مكان للعزائم الخائرة والنفوس الضعيفة في خنادق المنجزات، ولا يصنع التغيير إلا قلوب تشربت بحب الحياة، وإرادة التغيير، رفضا للظلم، ومناهضة للاستبداد الذي أصبح ماركة عربية خالصة تتبادل خبراتها الأنظمة قمعا وإذلالا وسخرية بالشعوب التي راهن عليها الشابي في كثير من قصائده، وفي نصوص أخرى ربما لم تجد حظها من الذيوع والانتشار مثلما كان ل(إرادة الحياة)، ومن أبرز هذه القصائد (النبي المجهول)، و(إلى الشعب)، و(سيثأثر للعز المحطم تاجه)، و(الصباح الجديد)، ولعل قصيدته (إلى طغاة العالم) تتماهى إلى حد بعيد مع أرادة الحياة وزنا ومضمونا وهي إلى ذلك استشراف شعري مدهش يرسم فيها الشاعر نهاية سوداء لكل ظالم مستبد خضَّب كفيه من دماء شعبه، وذهب يشوِّه سحر الوجود، ويبذر أشواك المآسي هنا وهناك: ألا أيها الظالم المستبدُّ حبيبُ الظلام عدوَّ الحياة سخرتَ بأناتِ شعبً ضعيفٍ وكفُّكَ مخضوبةُ من دماه وسرتَ تشوِّهُ سحر الوجودِ وتبذرُ شوك الأسى في رباه وبلهجة واثقة قوية يرسم الشاعر النهايات والمآلات المخزية، في سياق تقريري مشحون بالثقة ومستلهم عبر التاريخ: رويدَك لا يخْدعنْكَ الربيعُ وصحو الفضاءِ وضوءُ الصباحْ ففي الأفق الرحبِ هولُ الظلامِِ وقصفُ الرعودِ وعصفُ الرياح حذارِِ فتحتِ الرمادِ اللهيبُ ومن يبذرِ الشوك يجْنِ الجراحْ لقد أثبتت الأحداث الأخيرة في تونس جملةً من الحقائق التي شردت عن الأذهان ردحا من الزمن، ومن أهمها أن الشعوب هي بداية البدايات، وصانعة المآلات، ومن ثم فإنَّ أي رهان لا يُعقد على الشعوبِ هو رهان خاسر، وأن وعي الشعوب -لا ترضيات الأنظمة- هو الهدف الذي ينبغي أن تسعى إليه الواجهات الفكرية والسياسية في الوطن العربي بدلا من الوقوف طوابير في أبواب أنظمة صدئة أصبح يقينا لديها أن السلطة حق إلهي لها، وأن الشعوب تقبع في ثلاجة الموتى في برزخ طويل، طويل، وأنْ لاتَ نشور.. فهل تثبت الشعوب زيف هذا اليقين الخادع، وأنَّ تحت الرماد لهيبا وبراكين ثورة تنتظر عربات خضار أخرى؟؟