عندما يحدثُك بلهفةٍ وضراعة، وتكون لغته لغة الله والحق والأخوة والأمل والتطلع نحو مستقبل مثالي- علاماته سيادة العدل الإلهي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فهو لا يعرفك حينئذٍ حتماً، ولا يفقه وجهتك السياسية والفكرية. وغاية تلهفه وتضرعه وتزلفه إليك لم يكن من أجل عينيك أو عيون الوطن الذي يزايد بالنطق باسمه والبكاء على أطلاله، وإنما هي محاولة جادة لإغوائك والسير بك في طريقٍ يكثر فيه البكاء والحزن والتباهي بالموت والقسوة والعنف. ولكن مَن عنده أدنى معرفة بتقاسيم الوجه وأساليب الاحتيال والابتذال يفهم مباشرة أجواء سياقات الحديث النفسية والذهنية، ويدرك آيات الكذب والنفاق التي تتنافى مع حقائق الواقع وهشاشته الناتجة عن حديث الضراعة الدائم، وإفساده لمواكب البشر وخاصة السذج منهم والجهلة والصغار. إنه في حديثه المقدس عن جماعته وشيخه الرباني أو إمامه المعصوم لا يمل من التنظير ليل نهار، في الطريق والشارع والمسجد وفي المقيل وفوق السيارة وفي مواسم الأفراح والعزاء، لا محاولةً منه لإقناعك بأنها تمتلك مشروعاً سياسياً أو ثقافياً، وإنما عقيدة منه واستماتة لتؤمن بأن الرب راضٍ عن جماعته، وإنه قد أختارها لإنقاذ البشرية ووعدها بالاستخلاف في الأرض، وإن علامات الرضا الإلهي عنها يدركها من آمن بها وانضوى تحت لوائها. لقد أُعطي هذا وأضرابه طاقة أكثر من طاقة البغل الذي يتميز بقوة البدن والصبر والتحمل. فما من وسيلة ولغة واحتمال وخطاب إلا واتبع أثره ليضل المؤمنين لا ليهديهم كما يعتقد. وما وصفُهُ بالبغل إلا لبلادته وجهله وسيره مع قطيع من البغال تماثله في الحالة النفسية والآراء والأفكار واستخدام الوسائل التضليلية. وقد حاولت مرات عديدة فهم مقصدية (هند بنت النعمان) زوجة الحجاج عندما وصفته ب (البغل)، في قولها: وما هند إلا مهرةٌ عربيةٌ/ سلالة أفراس تحللها بغل. فإن ولدت فحلاً فلله درها/ وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل. وحين قرأت بعض صفحات تاريخه، ووقفت على سلوكه وممارساته العبثية، وما أنفقه من نفسه ووقته وحياته لإثبات ولائه لبني أمية، وقتله للناس دون جريرة يرتكبونها وبأساليب بشعة، أدركت براعة (هند) في التشبيه. إن الفارق بين الحجاج -من خلال تصفح سيرته- وبين صاحبنا (الأكثر من بغل)، هو أن ما أنفقه البغل الأول/الحجاج من الوقت والجهد قد أشبع رغبته وإرادته من العبث والحكم. أما البغل الثاني/المعاصر فليس سوى أداة دموية أو آفة خطيرة، أقل ما فيها من احتمالات استجابته لداعي الموت بحزام ناسف، أو التزامه بتكاليف اضطهاد الآخر/العدو –من لا يتناغم معه في الفكر والتوجه- ومطاردته وقراءة نواياه وتسويغ تطهير العالم من فسقه وشروره. أليس هذا بحوافزه المرعبة ومشاعره الساقطة وأخلاقه الرديئة (أكثر من بغل)؟!. أليس صانعاً للموت والظلم والعدوان والوقاحة والمخاطرة بالإنسان والمكان والزمان؟!. قد يكون في إمكانك استجماع ما تملكه من طاقة نفسية وذهنية لتحمل هذيان وقبح ومخاطر بغل واحد، فماذا أنت فاعلٌ إذا اجتمع عليك بغلان أو ثلاثة في مقيل أو فعالية أو في مكان ما؟. وأتى كلُ بغل بحجته وبرهانه على أنك غبي ومسكون بالسحر والجن وغير مبارك؛ لأنك خارج شروط جماعته ولا تؤمن بأفكاره، وأنك مفقود السعادة وضائع في الدنيا والآخر. أيها (الأكثر من بغل)، كيف أعجبُ بك وبجماعتك وأنتم أكثر جموداً وسخفاً وأكثر إزهاقاً للأرواح وتبديداً للسعادة وأكثر إضاعة للوطن وإماتة للحياة. أيها (الأكثر من بغل) لا أريدك أن تثني علي عقلي الفذ في حضرتك والضال في غيبتك، ولا أريدك أن تمجد ما أكتبه، فقط أريد منك أن ترجع لتكون أقل من بغل، ولترحمني من مرارة أوهامك، وزيف وقارك وقداسة جماعتك، فلسنا في يوم الحساب حتى تحمل كتابك بيمنك، وتخاطب الناس بمنطق خازن الجنة والنار (رضوان ومالك). إنما الناس يعيشون اليوم حيرة وضياعاً وعذاباً بسبب ضمائركم وأخلاقكم وأفعالكم الأكثر تدميراً من الزلازل والأعاصير.