نوايا مكافحة الفساد المعُلنة غلبت الإنجازات ؛ ندعي مكافحة الفساد ونعمل في الوقت نفسه على تكريسه تماماً مثلما ندعى مكافحة الإرهاب ونعمل على صناعته ونسعى حثيثاً إلى توظيفه واستثماره. الشعارات الموجهة ضد الفساد كثيرة والإفراط في ادانته ليس له حدود, بيد أن الانجازات لازالت في نطاقها الضيق لا تكاد تُذكر ولا تتلاءم مع كل هذا " الهيل والهيلمان "! كما يقول المثل الشعبي .... " الصيت في السماء والخبرة عمى "! أن الخطر الداهم القادم الذي يتوعد به الفساد الأمه هو " النظام الفدرالي " لليمن؛ ويكمن هذا الخطر الداهم في مقدرة الفاسدين على التغلغل إلى المحليات – إلى "الأقاليم " انهم كمثل كثبان الرمال الزاحفة إذا لم نستطع الحد من زحفها الصامت سواء بالتشجير أو بأية وسيلة أخرى فسوف تغطي علينا الطُرق التي نسير عليها لبلوغ اهدافنا ، وسيغدو الفساد الاقليمي ابشع من الفساد الفدرالي . اللامركزية في اليمن ضعيفة لم تترسخ خبرتها بعد وستقع الاقاليم فريسة سهلة للفساد من دون شك ؛ حيث سيصبح الفساد آليه ناجحة لشراء الولاءات المحلية و ستُهدر الموارد المحلية لهذا الغرض اذا لم نتمكن من الان من وضع نظام مالي محكم لها وستتحول رشوة الموظف العام إلى راتب إضافي لأداء عمله الرسمي وليس لأداء خدمة مميزة. وفي حال تشكلت لكل اقليم محكمته العليا الخاصة به ،فسوف تتشكل عندئذ ومن دون جدال لجنة مستقلة لمكافحة الفساد خاصة بكل أقليم و هذا التشكيل يجب النص عليه في مادة مستقلة في الدستور القادم . وسوف يترتب على ذلك تغيير جذري وليس سطحي في الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد ؛ وأول معالم التغيير هو أنها ستفقد ولايتها الجغرافية على كامل مساحة اليمن ، وستقتصر هذه الولاية فقط على أقليم صنعاء ، وهذا التغيير الجوهري ستتبعه من دون شك الخطوات التالية ، وذلك بحسب رؤيتي الخاصة من واقع خبرتي في هذا الميدان ؛ والتي أتوقع من السلطة الحاكمة أن تتبناها بصورة عملية بل وعاجله. الخطوات اللاحقة بحسب الرؤية 1. الغاء القانونين .... القانون رقم (30) لسنة 2006بشأن الذمة المالية والقانون رقم (39 ) لسنة 2006 بشأن مكافحة الفساد وجميع التشريعات الصادرة بمقتضاهما كمثل اللوائح والأنظمة الحالية . 2. اصدار قانون خاص بمكافحة الفساد لكل اقليم يتضمن باباً خاصا بإقرارات الذمة المالية و هذا القانون اما وأن يتولى اعداده أبناء كل إقليم أو من الأنسب أن تتولى السلطة المركزية كتابته كنموذج لكل الاقاليم . وهذه المسالة يجب ان تعالج في متن الدستور القادم. 3. يجب أن يتضمن كل قانون باباً خاصاً ب " مدونة السلوك" وهذا نقص كبير جداً الآن في تشريعات الهيئة الحالية المتثائبه، ورثته عن الهيئة السابقة المعول عليها ليس فقط اعداد مدونة السلوك الخاصة بها وانما أيضاً اعطاء المشورة الفنية لكل الجهات العامة وأيضاً للقطاع الخاص (الشركات ) في أسلوب إعداد مدونات السلوك والمشاركة معها في الإعداد بإرسال منسوبيها الى هذه الجهات. 4. التخلي عن الاصطلاح " هيئة " تحت أي وصف كان واتباع خبرة سائر الدول الناجحة في ميدان مكافحة الفساد التي تطلق على إدارتها لمكافحة الفساد تسميه " مفوضية Commission " أو " مكتب Bureau " او مديرية Directorate " أما الدول العربية مع الأسف تهتم بالتسمية وليس بالمضمون ، وفي هذا يكمن سر فشلها ! 5. بناءاً على ماذُكر في الفقرة الرابعة ، سيكون لكل اقليم ادارته التنفيذية المستقلة المكلفة في القانون الاقليمي بمكافحة الفساد والوقاية منه . وأرى أن تكون على شاكلة " مفوضية Commission " وهذا الشكل للإدارة مناسب وهو مُتبع في أكثر الدول نجاحاً في مكافحة الفساد ومنها دون حصر ... هونج كونج ( مفوضية هونج كونج المستقلة ضد الفساد ICAC) والتسمية ذاتها مع مفوضية ولاية نيوسا وثويلز في استراليا الفدرالية (ICAC) ونموذجها مفيد للتجربة الفدرالية في اليمن ؛ وكوريا الجنوبية أخذت التسمية ذاتها (KICAC)... 6. القيادة الإدارية المثالية لكل مفوضيه اقليمية لا تتعدى الثلاثة اعضاء – رئيس ونائبان له وهذا ما نرجوه في اقاليمنا إذا استقر الرأي وتوافق الجميع عليها ويكون تعيين الطاقم بقرار من حاكم الاقليم بالتشاور مع برلمان الاقليم وحكومته ، وتتقيد هذه الجهات عند الترشيح والتعيين بالشروط التي يحددها قانون الاقليم ( أهمها : الخبرة +الكفاءة + النزاهة ونظافة اليد ). 7. واحد اعمدة استراتيجية مكافحة الفساد تبرز من القرار الصائب في اختيار الإدارة المكلفة بمكافحة الفساد وفي هذه التوليفة للإدارات الاقليمية المعنية بمكافحة الفساد التي اقترح الأخذ بها فأن لنا الاسوة في التجارب الناجحة لعدد من الامم التي هبت لمقاومة الفساد منذ اواسط السبعينيات من القرن المنصرم وأبرز هذه التجارب التي يمكن ان نقتدي بها ولكن لا نقلدها تقليداً اعمى ، هي : 1. هونج كونج – تأسست مفوضيتها لمكافحة الفساد HK/ICAC)) في 15 فبراير 1974وتحددت تفويضاتها في ثلاثة اتجاهات ... الوقاية من الفساد + التحري والتحقيق +توعية الجمهور ، وتتألف فقط من المفوض Commissioner ونائبة Deputy ويعينان من طرف التنفيذي الأول – أي الرئيس وهو المسؤول المباشر والوحيد على المأمور الذي لا يخضع لشخص أخر . وهذا المأمور مسؤول عن توظيف الكادر اللازم المؤهل للمفوضية ولا ينتمي هذا الكادر للخدمة المدنية للبلد لا من حيث التعين والترفيع ..... ولا من حيث البقاء في الوظيفة أو تنحيته وعزله. وهذه المفوضية تقع تحت أعين أربع لجان تراقب أعمالها وتساعدها وتقوم انجازاتها وتحاسبها أيضاً في حال الخلل الجسيم ويشترك في عضوية هذه اللجان الرقابية اعضاء من البرلمان ومن الحكومة ومن المواطنين وأبرز هذه اللجان تلك اللجنة التي تتلقى وتبت في شكاوى المواطنين ضد المفوضية سواء في اهمالها لبلاغاتهم و التلكؤ في البت فيها أو في سلوكيات أعضاءها وسوء استخدام صلاحياتهم ... و الاربع اللجان هي: • اللجنة الاستشارية في الفساد Advisory Committee on Corruption (ACC) • لجنة المراجعة للعمليات (العمليات تؤلف قطاعاً رئيسياً في المفوضية) Operation Review Committee (ORC) • اللجنة الاستشارية للوقاية من الفساد Cor. Prevention Adv.Comm (CPAC) • اللجنة الاستشارية للعلاقات المجتمعية ( هذه اللجنة من المواطنين / المنظمات المدنية) Adv. Com. on community Relations (ACCR) 2. ولاية نيو ساوثويلز / استراليا الفدرالية وهي الأخرى معها مفوضية لمكافحة الفساد (NSW/ICAC) وقد تعين لها مفوضها Commissioner في عام 1988 وعلى الطريق نفسه لمفوضية هونج كونج سارت واتخذت الثلاث الاتجاهات ذاتها في ممارسة اختصاصاتها (( هذا النموذج الانسب لليمن الفدرالي)). ولقد تعرضت هذا المفوضية للأخفاق الشديد في بداية عهدها بالعمل والسبب في ذلك " فساد الشرطة / الأمن Police Corruption " مما دفع بحكومة الولاية إلى اصدار قانون خاص اسمه قانون نزاهة الشرطة في العام 1996وتشكيل مفوضية خاصة بمكافحة الفساد في الشرطة ((Police integrity Commission في العام التالي 1997وبمناسبة ربط الفدرالية بظاهرة الفساد ....فاللافت للنظر أنه لا يوجد في استراليا هيئة أو مفوضية لمكافحة الفساد على المستوى الفدرالي وإنما فقط توجد على مستوى الولايات ، وتحتل استراليا الموقع التاسع من أصل 159 دولة في مستوى النجاح لمؤشر منظمة الشفافية الدولية . ويقع نشاط المفوضية تحت أعين لجنتين مكرستين لمتابعة هذا النشاط وتقويمه واسداء المشورة للمفوضية ومحاسبتها على تقصيرها أو ارتكاب أية مخالفات جسيمه أثناء ممارسة نشاطها . هاتان اللجتان هما " اللجنة البرلمانية المشتركة المختصة بالمفوضية "PJC" ولجنة مراجعة عمليات المفوضية (ORC) ، وترفعان بانتظام التقارير حول المفوضية إلى حاكم الولاية وإلى برلمانها . وتتدخل اللجنة البرلمانية المشتركة في عملية التعيين ؛ فقبل أن يصدر قرار تعيينه يمر هذا المفوض على اللجنة مع مساعده الذي يعينه الحاكم بالتشاور مع المفوض . ويبقى المفوض لمدة خمس سنوات فقط في منصبه لا تتجدد . اللجنتان هما: • اللجنة البرلمانية المشتركة (المختصة بالمفوضية) Parliamentary Joint Committee • لجنة مراجعة عمليات المفوضية Operation Review Committee 3. وتتميز إلى جانب هاتين المفوضتين الناجحتين في مكافحة الفساد ، مجموعة من المفوضيات الناجحة في جنوب شرق آسيا مثل جمهورية كوريا الجنوبية (KICAC) التي تأسست في 2002 و مكتب التحري في السلوكيات الفاسدة (CPIB) لسنغافورا الذي يعود تأسسيه إلى عام 1952 ، وتحتل سنغافورا المرتبة الخامسة بين 159 دولة في مؤشر الشفافية العالمية وتعتبر الدولة الأقل فساداً في قارة آسيا ومن الدول الأقل فساداً في العالم . ويترأس المكتب مدير Director يعينه رئيس سنغافورا بترشيح من مجلس الوزراء ويكون هذا المدير مسؤولاً مباشرةً أمام رئيس الوزراء ويقع المكتب في ديوان مجلس الوزراء . وإلى جانب المدير ، يعين الرئيس مساعداً له وأي عدد من المدراء المساعدين بحسب الأحوال. 4. وإلى الدولة الافريقية " بوتسواناBotswana " انتقل نموذج هونج كونج لمكافحة الفساد وامتزج بخاصيات المجتمع الافريقي وتأسست " مديرية مكافحة الفساد والجريمة الاقتصادية DCEC" في 1994 وأخذت بوتسوانا تلك الابعاد الثلاثة لمحاربة الفساد التي تبنتها هونج كونج وتخطت في تجربتها العشرات من الدول النامية لتتبوأ المركز الثاني والثلاثين من أصل 159 بلداً في قائمة الشفافية العالمية . ويقع على رأس المديرية مدير يعينه رئيس بوتسوانا وله نائب مدير ثم يليهما الموظفون العاملون . في كل هذه التجارب التي اقتبستها لا يوجد بين صفوف قياداتها وزراء ولا نواب وزراء ولذلك هي ناجحة !