ما زلت عند قناعتي المبنية على رؤية وطنية واقتصادية أن رفع يد الدولة عن دعمها لبعض المشتقات النفطية هو الخيار الأسلم في هذا الظرف الخطير الذي يمر به الوطن، سيما بعد أن حُشر الرئيس في زاوية ضيّقة من قبل متآمري الداخل والخارج ممن كانوا ينتظرون على أحر من الجمر رفعه للراية البيضاء والإعلان عن تسليمه بانتصار المشروع التآمري في جرّ هذا الوطن وقاطنيه إلى متاهات الفوضى والاحتراب، خاصة عند اللحظة التي يشعر عندها مليون موظف مدني وعسكري مسئولين عن اشباع ورعاية ما متوسطه عشرة مليون نسمة عجز الدولة عن الوفاء بمرتباتهم الشهرية. هو إجراء مؤلم لا خلاف عليه ذلك الذي اتخذه الرئيس ولا أقول اتخذته حكومة الوفاق تهرباً من هذه المسئولية التاريخية التي تقع على عاتق الرئيس شخصياً، لكنه أي هذا الإجراء يظل بمثابة النفخ في الروح لإحيائها من جديد... وجه الخلاف بين الناس في هذا البلد حول هذا القرار هو في توقيته فقط، فالبعض كان يرى أن من واجبات الدولة البدء في اجتثاث الفساد ومعالجة الاختلالات الماثلة للعيان في كل أجهزة الدولة ومرافقها، فيما البعض الآخر ممن يدركون خطورة الموقف وخطورة المرحلة التي يمر بها الوطن فقد ارتأوا في إجراء رفع الدعم أولوية على مقارعة الفساد ومعالجة الاختلالات. إذن ومن حيث المبدأ فإن المشكلة لا تكمن في قرار رفع الدعم وإنما في توقيته، سيما وأن الناس بمجملهم قد سئموا إلم أقل أحبطوا من كثرة وعود الدولة في محاربة الفساد طالما يقابل تلك الوعود عادة نمو الفساد واتساع رقعته في طول الوطن وعرضه، الأمر الذي أفقد الناس الثقة في أي مسئول في أن تكون له القدرة على تخليصهم من هذا الداء العضال... حتى لو كان هذا المسئول هو الرئيس هادي الذي يختلف عن غيره في توجهه الوطني وفي وضوح ونقاوة سيرته الذاتية. ما بين نجاح وفشل قيادة سياسية عن غيرها خيط رفيع هو ما يعرف بخيط اقتناص الفرص السانحة التي يمررها التاريخ لهذا القائد السياسي أو ذاك، فكثير من الفرص التاريخية أتيحت للرئيس السابق علي صالح؛ كي يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ربما كان أهمها محطة حرب 1994م التي كان بإمكانه البناء على نتائجها مباشرة التأسيس للدولة المدنية الحديثة... دولة القانون والعدل والتسامح. المحطة الأخرى في عام 2006م التي كان بإمكان صالح عندها التنحي عن الحكم بعد 28 عاماً على تربعه في قمة هرم السلطة ليؤسس بذلك لنظام ديمقراطي حقيقي ولمبدأ تداول السلطة سلمياً دون الاستئثار بكرسي الحكم إلا ما لا نهاية، بيد أن كونه لم يكن يحمل مشروعاً وطنياً أو يضع في مخيلته أولويات بناء هذا الوطن على أولويات مصالحه ومصالح أسرته وأقربائه وقريته وقبيلته! فقد فوّت على نفسه هذه الفرص وهذا الشرف التاريخي ليُغرق البلد فيما هو فيه اليوم من ظلمات ولينتهي به المطاف السياسي إلى هذا التوهان بين كرسي الحكم الزائل وبين قضاء ما تبقى له من عمر يفترض أن يكون منسجماً مع الروح ومع إعادة الحسابات مع خالق الكون بدلاً من هذا العراك العبثي الذي يخوضه بعد تنحيه والذي يشبه العراك مع الريح. اليوم أجد الرئيس هادي مع أول فرصة تاريخية تتاح له للخروج من عنق زجاجته ولإخراج الوطن وقاطنيه من عنق هذه الزجاجة ذاتها، هذه الفرصة المتمثلة بردود أفعال الشارع الغاضب من قرار رفع الدعم عن بعض المشتقات النفطية... إذا ما اقتنص الرئيس فرصة هذا الفعل الشعبي الغاضب في الأساس على قوى الفساد ممن أهلكوا الحرث والنسل على امتداد ثلث قرن من الزمن، أكثر من غضبهم على قرار رفع الدعم، فإن بإمكانه وبجرة قلم وبقرارات سريعة ومتتالية إنجاز ما يصعب عليه إنجازه خلال سنوات. لقد بات بإمكانه البدء بإسقاط حكومة الوفاق وإحلاله بدلاً عنها حكومة تكنوقراط لا تخضع للمحاصصة الحزبية القذرة أو لتقاسم الغنائم بين الأحزاب المريضة مع حقه في الاحتفاظ بأهم عناصر حكومة الوفاق ممن أثبتوا جدارتهم في شغل مناصبهم والذين لا يتعدون عدد أصبع اليد الواحدة. لقد بات بإمكان الرئيس ما لم يتأخر عن اقتناص هذه الفرصة المواتية التخلص من الأسماء الوهمية والمزدوجة في جهازي الأمن والجيش وفي السلك المدني بشقيه الداخلي والخارجي المتمثل بالبعثات الدبلوماسية، ومن عشرات آلاف المجندين في إطار التبعية الحزبية ومن الألوية العسكرية الوهمية التي لا وجود لها على أرض الواقع والتي تذهب مخصصاتها الشهرية لجيوب كبار بعض المشايخ. لقد بات بإمكان الرئيس في ظل رفض الشارع لقرار رفع الدعم إلغاء الامتيازات التي يحظى بها كبار المتنفذين في الدولة وفي القبيلة ممن يستأثرون بالثروات البحرية في إطار تقاسم السواحل وممن يستأثرون بمناقصات مبيعات البترول، وممن يستأثرون بموارد الشركات التجارية والاتصالات دون دفعهم لضريبة تذكر لخزينة الدولة... لقد بات بإمكان الرئيس الإمساك بكل خيوط تحريك الجيش والأمن دون تركه خيطاً واحداً في يد الجنرال علي محسن أو من يتبعونه منذُ أكثر من 30 عاماً وحتى اليوم... لقد بات بإمكان الرئيس وضع حدٍ لازدواجية السلطة ووضع حدٍ لنفوذ القوى المتنفذة في العاصمة، ووضع حدّ لمواكب هذه القوى التي تحرسها وتحيط بها ألوية عسكرية مدججة بالسلاح تتقاضى مرتباتها وتمويناتها الشهرية من خزينة الدولة أكثر مما تحيط بالرئيس ذاته، لقد بات بإمكان الرئيس وبصريح العبارة طي صفحة نظام صالح وشريكه علي محسن والبدء بتدوين صفحة مشرقة من صفحات تاريخ هذا البلد، إذ وبدون طي هذه الصفحات المظلمة في تاريخ هذا البلد فإن كل معالجات الرئيس ستذهب أدراج الرياح، بل وأن حرثه سيشبه من يحاول الحرث في البحر. إنها فرصة الرئيس السانحة لوضع البلد على أول الطريق المؤدي به إلى برّ الآمان... ناهيك عن فرصته في خفض منسوب الغضب الشعبي؛ الناجم عن قرار رفع الدعم إلى درجة تلاشي هذا الغضب إن هو أفلح في وضع عربة الوطن في سكتها الصحيحة والآمنة طالما الكرة في ملعبه الآن، وطالما مرمى التهديف مشرّع على مصراعيه امام تصويباته قرار رفع الدعم عن بعض المشتقات النفطية هو سلاح ذو حدّين إما أن يقطع به الرئيس دابر الفساد والإفساد في هذا البلد فيخلد في صفحات التاريخ زعيماً وطنياً دون منافس أو يقع في شرك هذا السيف الحاد الذي علمنا التاريخ من خلال دروسه وقوع كثير من الفرسان صرعى بحدّ سيوفهم حين لا يجيدون استعمال سيوفهم أو إشهارها في الوقت المناسب. [email protected]