( أهديها إلى الأمهات الثكلى، من قضوا في الحادث الإرهابي بالمركز الثقافي بإب.) أسمها ( أمل )، كان يناديها زوجها: ( يا أمل حياتي )، وتارة أخرى ( أيتها الأمل. وفي ذات يوم ضمها إلى صدره، ثم دفعها برفق ومحبة..نظر إلى عينيها، إذا ضاق حاله ففي عينيها فسحة الأمل، ثم قال: - أجمل ما فيك أسمك. أشاحت بوجهها عنه، ثم قالت: - أسمي..أسمي! - يا أمل..هل هناك ما هو أجمل من الأمل؟ عادت..وعيناها على عينيه، ترمقه بنظرة متسائلة..قال: - نعم، وأنت أجمل، لأنك أمل حياتي. أطلقت تنهيدة عميقة..قالت: - الله عليك، ذكرتني بأغنية أم كلثوم: أمل حياتي يا حب غالي ما يتنسيش. طبعت قبلة طويلة على شفتيه، ثم قالت: - شكرا..يا حبي الغالي. بعدها بسنة رُزقت أمل، وزوجها خالد، بولدهما البكر..خطفه من جوارها، كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر..أعطاها ظهره، ثم قال: - سأسميه باسم أبي. انتفضت من سريرها، لم تعد الوالدة في يومها الأول، بل المستعدة للذود عن مشروعها الهاجع في سريرتها منذ عرفت أنها حامل. وقفت أمامه تحدجه بعين الغضب، لحظات أصبح حائرا من نظرتها. مدت يديها. سلمها المولود بعفوية الحائر..ضمته إلى صدرها، ثم قالت. - سأسميه أمل. - أمل ؟! على أسمك. - وهل نسيت أسم شاعرك المفضل: أمل دنقل..وأم أمل، أمل حياتك. الحائر بين وعده لأبيه قبل أن يموت أن يسمي أبنه البكر على أسمه، وإصرار أمل. اختار في نهاية المطاف أمل، الإصرار حي، والحي أقوى من وعده لأبيه المتوفي، ثم أنه جد أمل. ولن يحرجه أصدقائه، على أسم شاعره المفضل، وفي قرارة نفسه يتمنى أن يكون شاعرا في المستقبل. وأمل لم ترد أن تفقد أسمها، وهو يناديها يا أم فلان، أجمل ما فيها أسمها، وجمال العالم وهو يناديها: ( يا أم أمل ) وأدرك خالد قبل التحاق أمل بالمدرسة، عند بلوغه السادسة، أنه لن يسلم من سخرية بعض زملائه. أخذ يردد أمامه: ( أسمك على أسم الشاعر أمل دنقل.) سمع أمل، سماع من يبدو على عينيه بشرى الألمعية، ألمعية الذكاء..حتى رد ( ببراءة المتعجب ): - الشاعر..كيف يا بابا. - ستعرف حين تكبر. لمح أمه أمل، المقبلة عليهما..قال: - وأسمي مثل أسم أمي. استفز والده..قال ( منفعلا ): - إذا حد قالك أسمك مثل أسم أمك..رد عليه: أمي وعلى عينك. المذهول من مشهد أبيه، لم يدر الطفل له تفسيرا..قال لأمل: - بابا ليش يا ماما؟ ضمته إلى صدرها، وهي تقول: - بيحبك قوي قوي يا روح ماما..فهمت. - فهمت. - وإذا حد قال لك: أسمك مثل أسم أمك. - أمي وعلى عينك. - وأسمك على أسم من؟ - الشاعر أمل..دن..دن..دنقل.
وخالد الموظف بفرع جهاز الرقابة في ( إب )، يكاد الملل أن يدركه تارة، والتبلد تارة أخرى، والتبلد هروب من الملل. الملاحظات والتوصيات بدلا من العمل بها، يعود لتدوينها في العام التالي، وفي العام الثالث تكون الملاحظات والتوصيات قد تمادت وكبرت. النفخ في قربة مثقوبة، والثقب يتسع مع مرور السنين. وإذا تبلد يعيده إلى صوابه وهمته الأمل، وهو ينادي يا أمل، ويا أم أمل. وبعد ثلاث من السنوات كان أمل يردد المقطوعات الشعرية للأطفال بموسيقى تنم عن مستقبل يصبح فيه أمل شاعرا، بل أن مدرس اللغة بعث لوالد أمل خطابا قال فيه: ( ومن إب الخضراء سينبغ شاعر أسمه أمل خالد.) والأمل بعد ثلاثة أشهر من الخطاب، خرج الشباب والطامحين للتغيير يهتفون: ( الشعب يريد إسقاط النظام.) وأضاف خالد: ( وتفعيل الملاحظات والتوصيات.)، والفخور بعمله، العمل النبيل لأن هدفه نبيل، إلا أنهم يريدونه لأي غرض آخر إلا أن يكون نبيلا. وإذا أدركه الملل، أو التبلد إلا أنه سيظل نبيلا في قرارة نفسه، مادام أمل وأم أمل. إلا أن التغيير والتفعيل لم يتحققا حتى اللحظة، لحظة بلوغ أمل الثانية عشر، واحتلاله الصف السادس من المرحلة الأساسية، عندها كان أقترب من قول الشعر: يصف مدينته الخضراء ووالديه. وأمتلك حسا نقديا، قال: ( إب الجرح فيك نازف، طعنك قوم ليس فيهم إنسان كلا ولا خالد.) هاله العشوائية في البناء وتشويه الأرض الجميلة، غير أنه الطفل الموعود بالشاعر المعتبر. واستغرب الطفل من دخول إب مسلحين على عربات مكشوفة وأخرى مدرعة..سأل أباه، لم يجب..استطرد: - والملاحظات حقك عيفعلوها..العدالة والمساواة يا أبي. - لا أدري. - والأمن يا أبي. - لا أدري. - طفحت نفسي. - عليك بالانتظار والأمل.
وقبل ذكرى ميلاد النبي بعدة أيام، كانت الأعلام الخضر ترفرف في سماء المدينة. واللوحات المنصوبة في كل أرجاء المدينة المكتوب عليها جملا تشيد وتذكر بالرسول، وكأن أهل إب لا يذكرون سيد الخلق في كل وقت وآن ومن مكبرات الصوت على المآذن خمس مرات باليوم. ذكر أمل العام الماضي، أحتفل مع أبيه بذكرى مولد الرسول في المسجد القريب. وعند عودته إلى البيت، في مثل هذه الساعة مازال خالد في الطريق، وأمل في المطبخ تقوم بأعداد الغداء..وقف خلفها..قال: - ماما. أفزعها، لم تعتد أن يزورها عند عودته في المطبخ..قالت: - نقزتني..أيش ذي جابك عندي اليوم؟ - قرأت في أحدى اللوحات ( لن ننساك يا رسول الله.) ومتى نسيناه؟ - سير أسألهم. - العام الماضي احتفلت مع والدي في الجامع..مش هكذا! - قد قلت لك..سير أسألهم. - طيب ليش هذا كله..قد الرسول في قلوبنا. ردت ( منفعلة ): - قد الدولة دولتهم..يحتفلوا كيف ما يشتوا..أخرج خليني أعمل الغداء. انفعلت كما لم تنفعل من قبل على أمل، لعلها لن تغفر لنفسها. وفي صباح اليوم التالي لم تستيقظ أم أمل كعادتها. فتحت باب غرفتها على عجل، عجل من أقترف ذنبا. ضربت على صدرها، أمل على وشك مغادرة البيت إلى مدرسته..قالت: - سامحني يا أمل..رجع لأبوك المغص الكلوي وسهرت معه..دقائق وأحضر لك الفطار. - ما فيش وقت. - كان قلص حليب. - ولا حليب، عد أشتري سندوتش من المدرسة. جثت على رجله، كادت أن تجهش بالبكاء، ثم قالت: - بلاش اليوم المدرسه..هو يوم يا ولدي. سحب رجله..جثا أمامها، ثم قال: - إلا اليوم، الحصة الأولى حصة لغة عربيه، ولا بد ان ألقي قصيدتي الجديدة. احتضنته، بكت بكاء صامتا..ثم قالت: - بشرط تسامحني، انفعلت عليك أمس. - أسامحك وأنت أمي..خاطرك. لم يكن رده مقنعا لأمل، لم يقل: سامحتك يا أمي.
وعند الحادية عشر صباحا سمعت أمل دويا لم تسمع مثله من قبل. هرعت إلى خالد النائم، الدوي جرح ذاكرتها، لم يعد ذلك الموجوع وهي تهزه بعنف، وتقول بصوت مرتفع: - صوت دوي انفجار ما قد سمعت مثله. - ارحميني يا أمل..موجوع طول الليل..وتفجعيني بالدوي. - وابننا. - أمل في المدرسة، عيفجروها؟!..خليني أرقد. والكهرباء مقطوعة. الدقائق تمر بطيئة، ما أبعدها الواحدة والنصف، عندها يكون أمل قد عاد من المدرسة. وعند الواحدة سمعت قرعا على الباب، أقوى من صوت الانفجار على أمل..قالت: - من ؟ - جيرانك يا أمل..أفتحي. فتحت بيد مرتعشة، فتح من أرعبها دوي الانفجار. شاهدت أمامها اثنتين، أحدهما تحمل كيسا داخله شيئا ما..قالت الأولى: - ما سمعتيش بالخبر. كاد الخبر المجهول أن يشلها..قالت بعد لحظات: - خبر أيش. - فجروا المركز الثقافي..أبصرناهم بالتلفزيون..حاجه مفجعه..أشلاء ودماء..والأطفال الله لا رحم من بزهم.. لم تسمع ما بعد الأطفال كانت مغشي عليها.
وفي اليوم السابع أخرج خالد الأمانة من الكيس، حقيبة أمل الملطخة بالدماء، له في كل كراس ذكرى..قصيدة أمل الأخيرة، قتلوا القصيدة، مشروع أمل المبدع. فرك عينيه، لمح ورقة مكتوبة، أبي العزيز في مطلعها..تسللت يده إليها..قرأ: ( دخل علينا بالفصل اثنان، قبل أن أقرأ قصيدتي، وبدون استئذان الأستاذ، لم يعد للتعليم حرمة، ولا للمدرس قيمة..وهو يقول: - قيام. ثم أخذ أحدهم يوزع علينا الأعلام الخضراء، والآخر يقول: - ستأتون معنا إلى المركز للاحتفال بذكرى مولد الرسول. استفزني..قلت: - لم يأذن لي أبي. - معنا أو نفصلكم. - وقبل أن أقرأ القصيدة؟! حدج المدرس بنظرة الغضب..بادر المدرس بالقول: - بكره يا أمل..بكره. ( فهل يأتي بكره يا أبي.) أحضرونا يا أبي لملئ الفراغ، أي فراغ هذا سيملئه الأطفال، وأي مصير ينتظر أطفالا أخذوهم عنوة بدون أذن أبائهم وأمهاتهم. أخذتني الوحشة بالقاعة. لن يرضى سيد الخلق بأخذنا عنوة، ما كان أغناه عن أطفال لم يأذن لهم أبائهم. أخذتني الرهبة، فلم أجد من وسيلة إلا أن أكتب إليك. قبل أمي، شقيقتي نسمة، وشقيقي عبد الرحمن، الحمد لله أوفيت بوعدك لجدي، ويعذراني ربما لا أوفي بوعدي لهما، لن أحضر لهما الشوكلاته التي يحبانها. جسمي يرتعد من الخوف، لا أدري ما سببه. سأضع الورقة في حقيبتي، أخشى أن تضيع..الوداع أبنكم: أمل