«الفندم صالح مافيش أحسن منه»، هكذا قال لي أحد المسنين الكبار الذي كان متكئا على الرصيف المجاور لمنزل الأستاذ صالح عباد حين سألته عن منزله، وقام من مجلسه على الفور معي في السيارة التي تقلني باتجاه منزله، ولم يكن الأول الذي سمعته يثني عليه، بل واحد من أمة يمثل لها الأستاذ عباد جاسوس قلوبها. أعتقد أن الأستاذ صالح عباد يعيش الآن مرحلة ما بعد النجاح بعد أن زهد في المناصب التي لم تزهد فيه متأملا فلسفة عقود من العطاء كان فيها كمن يحمل غصن الزيتون وبندقية الثائر معا.. ولد صالح عباد الخولاني عام 1952م بمنطقة الطفة محافظة البيضاء وفيها عاش سنواته الأولى مصيبا من بركة المعلامة التي درس فيها القرآن الكريم والحساب ومبادئ اللغة وانتقل بعد الثورة إلى محافظة إب مع والده الذي كان جنديا مرافقا لمحافظ المحافظة آنذاك المرحوم الشيخ صالح بن ناجي الرويشان وفي إب حيث الطبيعة الخلابة التحق بمدرسة الوحدة وهي أول مدرسة في المحافظة بعد الثورة حتى تخرج من الصف السادس الابتدائي وحصل على شهادة الابتدائية التي كانت تشبه ربما بكالوريوس السوربون اليوم، التحق بمدارس صنعاء ليواصل الإعدادية وفي مدرسة سيف بن ذي يزن الحديثة التي بنتها في مدرسة الوحدة والكويت كان مقامه فدرس الإعدادية حتى نال شهادتها العامة وقد أقام في «القسم الداخلي» مع الزملاء القادمين من خارج المدينة.. في هذه الفترة وتحديدا في نهاية 67 وبداية 68 كانت طلائع المقاومة الشعبية تتشكل ومعظمها من الشباب الذين توفر لهم قدر يسير من التعليم بعد أن حشدهم رجالات المقاومة الشعبية والذين كانوا يخشون أن تتكرر أحداث 48 على المدينة، وذلك في حصار السبعين يوما، يقول: أذكر أن الأخ الأستاذ يحيى الشامي -عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني وكان يومها وكيلا لوزارة التربية والتعليم جاءنا في بداية الحصار وطلب منا أن نلتحق بالمقاومة الشعبية، وتحت حماس الشباب وتأثير الشعارات الوطنية التي كنا نرددها اندفعنا جميعا للالتحاق بالمقاومة الشعبية وسلحنا من التوجيه المعنوي، وكانت قيادة المقاومة في مقر مجلس الشورى حاليا بقيادة المرحوم غالب الشرعي ومن ضمنها الأستاذ عمر الجاوي، وعلي مهدي الشنواح وهما من أبناء الجنوب وآخرون لا أتذكرهم الآن.. كان دوري في هذه العملية مثل دور أي واحد من الشباب لا سيما وأنا في السادسة عشرة تقريبا، كنت مكلفا بالحراسة لحماية العاصمة لأن الجيش آنذاك كان قليل العدد، كنت أحرس تارة في الصافية وتارة في سعوان وتارة في عصر، كان الهجوم على العاصمة متوقعا واستمريت حتى نهاية السبعين اليوم، ووقتها تم إعلان أن من يرغب من طلاب الثانوية والإعدادية الالتحاق بكلية الشرطة أو الكلية الحربية فالأولوية لهم، فالتحقت بالكلية الحربية وكانت فرصة لي أن أختصر الطريق يوم 1/6/1968م وأمضيت فيها ثلاث سنوات حتى تخرجت وبالمناسبة فدفعتنا هذه أول دفعة تقرر دراستها ثلاث سنوات لأن الدفع التي كانت قبلنا تمكث أشهرا فقط ثم سرعان ما تلتحق بالميدان نظرا للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلد. وحين تخرج من الكلية وحصل على الترتيب الثالث تقرر تعيينه معيدا فيها مدرسا لمواد فن القتال والحرب والحرب النفسية والتاريخ العسكري، كما كان مساعدا لمدرب الفروسية، بعدها بسنتين تسلم إدارة التوجيه المعنوي بالكلية، أعتقد أن هذه الإدارة هي التي كونت شخصيته الثقافية فالسياسية من خلال كثرة القراءة والاطلاع على الأدبيات العلمية والأكاديمية ومتابعة الصحف والمجلات وإعداد الخطط والبرامج الثقافية والتوعوية والإشراف على المحاضرات والدروس والندوات والأنشطة الثقافية بشكل عام، وهنا تمازجت الروح العسكرية القيادية بالروح العلمية والسياسية التي أهلته أن يكون صانع أدوار حقيقية بثقة واقتدار على مسرح الحياة السياسية حتى الآن.. ثلاثة عشر سنة قضاها في هذا الجو العلمي والقيادي تراكمت فيها التجارب والأحداث والدروس حتى عام 1983م كما حصل أيضا على ليسانس شريعة وقانون جامعة صنعاء عام 79م وجميل أن يحتل القانون مساحة في تفكير أي قائد عسكري. لا يمكن أن نمر مرور الكرام على فترة السبعينات دون أن نتطرق إلى طبيعة الحراك الحزبي والاستقطابات السياسية التي كانت كالجمر تحت الرماد.. للشيوعيين تواجدهم وللقوميين حضورهم وللإخوان نشاطهم، لكن أين مكان الشاب الطموح صالح عباد بين هؤلاء كلهم؟ يقول: كنت متأثرا بالاتجاه الإسلامي أكثر خلال هذه الفترة لا على أساس انتماء ضيق لكن هكذا نزعة نفسية وقناعة ذاتية وكانت بعض هذه الاتجاهات تحاول استقطابي إليها، وحقيقة فإن أول تأثيري بهذا الجانب كان تأثرا فرديا عن طريق الكتاب وأنا صغير في القرية وهو أول كتاب أقرأه في الترغيب والترهيب أعطاني إياه المرحوم الحبيب محمد الهدار والد الشيخ حسين الهدار وكيل وزارة الأوقاف حين مر بالمسجد زائرا وألقى محاضرة في هذا الموضوع، فقرأت هذا الكتاب بشغف وارتحت له كثيرا وكنت في صنعاء أثناء الدراسة أحضر محاضرات مسجدية لفقهاء أزهريين ربما رد فعل غير مدروس لما نسمعه من بعض المدرسين المحليين والأشقاء الذين كانوا يروجون لنظرية دارون ويرددون مقولة لا إله والحياة مادة، هذه أفكار كانت سائدة في بعض الأوساط خلال تلك الفترة، وأيضا رد فعل لكتاب قرأته آنذاك وبأدوات تلك المرحلة هو كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» الذي جعلني فيما بعد أهيم بقراءة بعض الكتب مثل العلم يدعو للإيمان لمؤلفه «كريسيو موريسيون» أحد رؤساء الأكاديميات العلمية في أمريكا وكتاب الإسلام يتحدى لمؤلفه وحيد الدين خان، هذا إضافة إلى متابعة المجلات ذات الاتجاه الإسلامي. على الصعيد المدني إبان حركة التصحيح بعد 13 يونيو 1974م عمل في لجان التصحيح التي أنشأها الشهيد الراحل إبراهيم الحمدي -رحمه الله- إذ كان في لجنة التصحيح التابعة لوزارة الإعلام، كما كان أيضا ضمن لجنة الحوار الوطني بداية الثمانينات والتي انبثق عنها المؤتمر الشعبي العام بميثاقه الوطني يعتبر الرجل هذه الفترة من أهم محطات حياته كونه دخل السياسة من أوسع أبوابها وتعرف على شخصيات سياسية وثقافية واجتماعية من مختلف الاتجاهات كما قرب من الأفكار والإيديولوجيات المتصارعة وعن وثيقة الميثاق الوطني يقول: أعتز بها إلى اليوم وأعتبرها أفضل وثيقة سياسية يمنية لأنها خلاصة فكر الجميع ومحل اتفاقهم، واستمر عضوا في اللجنة الدائمة وفي اللجنة العامة أيضا رئيسا لدائرة الإدارة والخدمات بعد عودته من محافظة إب. وفي عام 83م تم تعيينه محافظا لمحافظة إب إلى عام 85م تعين حينها عضوا في اللجنة العليا للانتخابات ومقررا فيها والتي رأسها العميد مجاهد أبو شوارب في الانتخابات المحلية التي حولت التعاونيات إلى المجالس المحلية.. بعدها عمل وكيلا لوزارة الداخلية لقطاع الإدارة المحلية بعد دمج وزارة الإدارة المحلية مع وزارة الداخلية كما كان أيضا مساعدا لأمين سر اللجنة الدائمة الدكتور أحمد الأصبحي حفظه الله ورعاه، رأس عقبها لجنة التقسيم الإداري في الجمهورية العربية اليمنية، وتعين للمرة الثانية محافظا لمحافظة إب حتى عام 91م. في حضرموت مع شروق شمس الوحدة عام 90م أشرقت مرحلة جديدة أخرى في حياة الرجل ولمدة عشر سنوات وهي فترة عمله محافظا لمحافظة حضرموت، وفيها جسد كل معارفة وتجاربه السابقة إلى واقع حي وعملي بروح المسئول النزيه ذي النظر البعيد، فأسس حضرموت الحديثة ولذا ظل وحتى الآن وسواس كل قلب بالنسبة لأبناء حضرموت لأنه كان يؤدي خدمة بينهم ولا يمارس وظيفة كما يفعل البعض، يقول: أحسست نفسي بين الكبار كابن وبين النظراء كأخ وبين الصغار كأب، عشت معهم هكذا، وعشت مع أناس كان يجب أن أتعرف عليهم من قبل، ربما كان عباد خير مسئول جسد الوحدة وعكس صورتها المشرقة، ولذا لم نسمع من النعرات الطائفية أو الأصوات النشاز في حضرموت خلال فترة ما بعد الحرب ما نسمعه الآن، واللبيب يدرك عدم وجود مشاكل في الأراضي هناك تكونت من بعد الحرب مباشرة.. وأعتقد جازما أنه لو لم يكن الأستاذ عباد محافظا لمحافظة حضرموت خلال فترة ما بعد الحرب لكانت حضرموت الآن أشد التهابا واشتعالا من عدن أو الضالع، تعامل الرجل في هذه الفترة الحرجة مع الناس بعقلانية وبهدوء ومسئولية صادقة خلافا لآخرين زرعوا جمرات الاستبداد فحصدوا نار الشظايا!! عمل على إنهاء قضايا التأميم تماما وأعاد للناس ممتلكاتهم ووزع الأراضي ونجح نجاحا باهرا، كان أحد المعارضين السياسيين يأتي ومعه جماعة إلى حوش المحافظة وتحت مكتب المحافظ مباشرة ويخطب الساعة والساعتين بنبرة حادة ضد النظام وضد الحكومة، فيحرض عليه البعض ويرد عليهم المحافظ بروح المسئولية دعوه يتكلم وليقل ما يشاء ما دام لم يحمل سلاحا، فهذا من حقه. عن رؤيته للأحداث اليوم وما يجري يقول: كم نتمنى أن نبتعد عن الانفعالات وأن نناقش قضايانا بهدوء، أنا لست مع التأجيج سواء جاء من السلطة أو المعارضة، يجب ألا نبتعد عن قضايا الوطن وألا يتجاهل أحد الآخر لأننا جميعا في سفينة واحدة، قضية المتقاعدين بدأت هنا في صنعاء قبل ثلاث سنوات ويا حبذا لو كان تم احتواؤها في حينها، ربما لما وصلنا إلى هذا التوسع في اندمال الجرح وقد شملت اليمن كلها، أحيانا نتباطأ في علاج المشكلات حتى تتوسع وتسيس وتتحول إلى قضايا رأي عام، نحن الآن بحاجة إلى فتح قنوات حوار.. وعن رأيه في انتخاب المحافظين يضيف: كانت مطالب المعارضة قوية في هذه المسألة من عام 97 و98م الآن المؤتمر التزم، وهي خطوة محسوبة له. وعمّا إذا كانت هذه الخطوة ستؤثر على المشكلة الاقتصادية يقول: انتخاب المحافظين لا يحل المشكلة: المشكلة الاقتصادية تحلها خطوات اقتصادية تعنى بها الدولة، هذه مسئولية الحكومة، والمحافظون حلقة في السلسلة، المشكلة الاقتصادية تتطلب محاربة الفساد الإداري والمالي، تتطلب إدارة ذات قدرة وكفاءة وأمانة، أحيانا ننظر إلى الكفاءة وننسى الأمانة وأحيانا ننظر إلى الأمانة وننسى الكفاءة، على الحكومة تهيئة مناخ الاستثمار وأن نخرج من هذه الدوشة لأن الناس إذا خرجوا إلى الشارع فمن الصعب السيطرة عليهم من السلطة أو المعارضة. وحين سألته عما إذا كان يرغب في العمل مجددا أجاب: لم أعد أرغب في العمل التنفيذي على الإطلاق، عملت كثيرا وأفضل الآن العمل الاستشاري الهادئ الذي يساعد على القراءة والتأمل والهدوء. وبالمناسبة فالرجل كاتب مسرحي وهو مخرج مسرحية «عالم وطاغية» للدكتور يوسف القرضاوي، ومسرحيات أخرى مثل مواقف عبر التاريخ التي تحكي وقائع من التاريخ العسكري والتي أخذت من ملحمة عمر الكاتب، وأيضا أخرج مسرحية وا إسلاماه للكاتب علي أحمد باكثير وكتب مسرحية «قهوة الراحة والصراحة لصاحبها مرزوق الصباحة»، وهي مسرحية فكاهية وسياسية معا، وأيضا مسرحية «مطعم العصيد والزاد لصاحبه الحاج معراد» ومسرحية «الأمراض المستعصية» كتبها الرجل وأخرجها، وقد سجلت ثلاث في التلفزيون (وا إسلاماه، مطعم العصيد والزاد، الأمراض المستعصية) وتعرض بين الحين والحين في لقطات تلفزيونية.