تشهد علاقة اليمنيين بالمكان حراكاً لافتاً، يزداد وضوحاً لدى الأجيال الجديدة. فعلى رغم ثقل الإرث الدال على ارتباط اليمني بالمكان إلى درجة تسمية المناطق بأسماء أشخاص، أو اتخاذ اسم المنطقة كنية للشخص، تشهد النظرة إلى المكان تخلخلاً واضحاً، خصوصاً مع انفتاح البلد على العالم وانتشار وسائل الاتصال. ويسخر كلز (18 سنة) من مقولة «عزّ القبيلي بلاده»، التي يرددها اليمنيون تعبيراً عن الانتماء إلى مسقط الرأس، حيث الشعور بالعزّة والكرامة والطمأنينة. ويتحقق هذا الشعور مع ارتباط الإنسان بموطنه الأول، وفق ما تفيد المقولة التي تنتمي أصلاً إلى ثقافة الجماعة العصبوية الصغيرة الممثلة بالقبيلة. ويرى كلز، الذي يدرس اللغة الإنكليزية في معهد تشرف عليه السفارة الأميركية في صنعاء، أن الارتباط الأبدي بالمكان مجرد أسطورة سقطت مع التطور الذي جعل من العالم قرية كونية. وينتمي كلز إلى منطقة قبلية، يشتهر سكانها بزراعة القات، بمن فيهم أفراد أسرته، وفي حين يؤكد أنه لا يتعاطى القات إلّا في المناسبات، يشير إلى أنه يقضي وقته في تصفح الإنترنت. ويسعى كلز إلى تحقيق حلمه المتمثّل بالهجرة إلى الولاياتالمتحدة الأميركية وإلى ديترويت في ميتشغن تحديداً حيث يكثر أبناء بلده. وشهد تاريخ اليمن القديم هجرات متعددة أبرزها تفرق قوم «سبأ» نتيجة تهدم سدّ مأرب وانتشارهم في أصقاع المعمورة. وفي العصر الحديث وخلال النصف الأول من القرن المنصرم هاجر يمنيون كثر إلى أصقاع مختلفة من المعمورة من أفريقيا إلى أميركا. ويغلب العامل الاقتصادي على الدوافع وراء الهجرة، خصوصاً إلى مناطق الخليج القريبة، ولا تزال السعودية تشكل مقصداً رئيساً لكثير من اليمنيين الذين يقصدونها بطرق مشروعة أو من طريق التهريب. ويقول وهيب (22 سنة) إنه دخل إلى السعودية مرتين من طريق التهريب، بعد أن دفع نحو 500 دولار أميركي للمهربين. ويبدو «التعلق» بالمكان، وثيق الصلة بالجماعة التي يعيش في كنفها الفرد، أكثر ممّا هو تعلق بالمكان نفسه، ويتضح هذا في حالة جماعات البدو الرحّل الذين، وإن دأبوا على تغيير المكان، لكنّهم قلّما يتفرّق شملهم. وصار لافتاً في المدن تمركز سكان منطقة ما في أحياء معينة، وعادة ما ينتقل البعض إلى عمارات أو حارات فيها أصدقاء ومعارف. وما زالت المدن عامل جذب لتغيير المكان، وشكّلت عدن مقصداً لكثير من اليمنيين في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، فيما تعود هجرة العدنيين إلى الخليج وأوروبا وأميركا إلى أسباب سياسية وثقافية في المقام الأول، خصوصاً بعد التغييرات السلبية التي طاولت الحريات بعد الاستقلال، وما حدث عقب الحرب الأهلية عام 1994. وتوفر شبكة الإنترنت فرصاً عدة للتحرر من الارتباط بالمكان. ويقيم مستخدموها من الجنسين علاقات صداقة مع آخرين في دول عربية وأجنبية، وثمّة من يشترك في مواقع توفر فرص التعارف بغرض الزواج، كما هي حال مهدي (23 سنة) الذي تعرّف إلى فتاة فرنسية عبر الإنترنت. وكانت الهجرة إلى الغرب برزت بقوة عقب الحرب الأهلية، لجأ خلالها الكثير من الشبان اليمنيين إلى الزواج بأجنبيات على خلفية الرغبة في الحصول على إقامة دائمة في بلد الزوجة وبالتالي... على جنسيتها. ويرى رشدي 27 (سنة) في مفهوم الوطن «وهماً كبيراً»، موضحاً أن الوطن ليس مجرد تراب بل هو الذي يوفر حياة كريمة. وتشهد الأسوار التي كانت تقام على المدن اليمنية مثل سور صنعاء، تخلخلاً مضطرداً، ليس بالمعنى المادي فقط، بل وعلى مستوى الدلالة الثقافية والاجتماعية. فالشعور بعدم وجود الأمن الاقتصادي والاجتماعي يدفع الكثيرين إلى عدم الثقة بالمكان الذي يعيشون فيه، وبالتالي البحث عن مكان بديل يوفر أبسط «الحقوق الإنسانية»، التي يطمحون إليها.