حين تجمع ثوار مصر فى ميدان التحرير إبان اندلاع الاحتجاجات يوم 25 يناير، لم يكن أى ثائر مصرى يشك ولو للحظة واحدة أن هذا الميدان سيكون الأشهر فى تاريخ مصر، ويتحدث عنه العالم أجمع، ويصبح مزاراً سياحياً لكبار قادة دول العالم، بل تخطى اسم التحرير "الثائر" حدود الوطن، ليتخذه ناشطو حركة "احتلوا وول ستريت" مثلاً أعلى لهم، تأكيداً على مكانته ومعناه، بأن كان سبباً فى تسطير معنى كلمة "حرية". على مشارف ميدان التحرير، يقع مبنى جامعة الدول العربية..ذلك المبنى الذى بات الملاذ الوحيد، بل والأوحد للجاليات اليمنية والسورية فى مصر، لوقف المجازر التى تحدث لذويهم من قمع وقتل وسفك للدماء من جانب الرئيس السورى بشار الأسد، ونظيره اليمنى على عبد الله صالح. التحرير كان وبات رمزاً للحرية، والجامعة العربية كانت بلا رمز، وأصبحت بلا أنياب، وبات الجالسون على كراسيها مجرد ممثلين لبلدان يرتكب – بعض- رؤسائها كل معانى العدوان الغاشم، لكن، ورغم اقتراب الجامعة العربية من التحرير، أو مايعرف بميدان الحرية، إلا أنها لم تصلها أى نسمة من نسمات هذه الحرية، لتبقى مجرد مبنى، تكون من الحجر، مثلما بات بعض مسئوليه قلوبهم من الحجر. مشاهد عدة تلفت الأنظار بمجرد الاقتراب من مبني جامعة الدول العربية، فعلي اليمين يقف المشهد الأول راصداً أعضاء تنسيقية الثورة السورية في مصر، وقد اتخذوا من هذه المساحة الصغيرة، مكاناً لاعتصامهم المفتوح، حتي يتحقق الحد الأدني من مطالبهم المتمثل فى وقف العدوان الغاشم من جانب النظام السورى، فى حق شعب سوريا الشقيق. من الساحة الصغيرة فى المشهد الأول يميناً، إلى الجالية اليمنية فى المشهد الثانى يساراً، حيث اتخذوا منها مقراً لاعتصامهم، وحين فشلوا فى توصيل أصواتهم "العالية" لمسئولى الجامعة العربية، لم يصبهم الملل، بل أصروا على أن يوصلونها فى "صمت مكتوم" بأن رفعوا لافتات تطالب الجامعة بالتدخل لوقف نزيف الدماء فى اليمن، وإقناع رئيسهم على عبد الله صالح بالتنحى فوراً. وسط المشهدين، يتخلل إلى الأنظار مشهد ثالث حزين.. اختلط فيه الظلم والقمع بلون الدماء..وتظهر فيه ملامح الوجوه وكأنها من القرون الوسطى، ومابين لصق صور شهداء الذين ماتوا في المجازر، وبين دموع القهر وذكريات الغدر، يقف ضحايا "أسد سوريا" رافعين شعارات "يامن تخافون من بشار الله أولي بخوفكم " و"لايكفي تجميد عضوية سوريا..لابد من إسقاط الشرعية عن العصابات الأسدية "، "الشعب يريد حماية دولية .. حظر جوي .. إعدام السفاح". على نفس سيناريو المشهد الثالث، يتخلل المشهد الرابع اختلاف فى الجنسية فقط، من سوريين إلى يمنيين، حيث يقومون بتعليق صور شهدائهم الذين ماتوا في المجازر، بينما سطّرت لافتاتهم عبارات تطالب بإسقاط الطاغية، وتعليق عضويتهم في الجامعة العربية، لكن لافتاتهم لم تشفِ غليلهم، ولم تطفء نيران قلوبهم، فأقدموا على تشغيل أفلام وثائقية، ترصد ثورتهم التي تنتظر اكتمالها، وكلما رأوا شخصاً يقترب منهم، ليشاهد أفلامهم، ويواسيهم فى أحزانهم على شهدائهم، تتعالى أصواتهم بالتهليل والترحيب به. "نائب مجلس شعب سابق، وسجين رأي، وضمير سابق".. هكذا فضّل محمد مؤمن الحمصي، المشارك في اعتصام تنسيقية الثورة السورية تعريف نفسه، حيث جاء من دولة كندا، للجلوس إلى يمين الجامعة العربية منذ عدة أيام، ليطالب الزعماء والمسئولين العرب الشرفاء، باتخاذ موقف "رجولى" تجاه مايحدث فى حق أبناء شعبه. فجأة يصمت الحمصي عن الكلام، ليقوم بإعادة تعليق لافتة تطالب بإسقاط ديكتاتور سوريا، تسبب الهواء فى سقوطها، ثم يعاود الحديث عن الشعب السوري الأعزل، الذي يطالب بحماية دولية ولايجدها، ويدعو لحظر جوي للأسلحة والذخائر التي تقصف الشعب السوري، ولايجد من يسمع لدعواه، بينما ترك الجميع سوريا تعانى انعدام الرحمات، على أمل أن يتنفس السوريون رحيق النسمات. بنبرة حزينة، ودموع أبت أن يظهرها، استنكر الحمصي، ما وعد به نبيل العربي أمين جامعة الدول العربية، السوريين بأنه سيوقف حمام الدم المنهمر في سوريا، لكنه لم يفعل شيئًا، ومالبث الحمصى أن أطرق رأسه حزينًا، ثم قال:" هناك خذلان للشعوب العربية، وثورات الربيع العربي، بما تفعله جامعة الدول العربية، وعار عليها أن تصبح مقراً للحكام المتوحشين، والمفترض أن تكون مبني للشعوب العربية، وليس للحكام الديكتاتوريين، وكنت أتمني من نبيل العربي أن ينصر الشعب السوري". يري الحمصي أن جامعة الدول العربية تكيل بمكيالين، ففي الوقت الذي لم تتخذ فيه أى إجراء مع اليمنوسوريا، علقت عضوية ليبيا خلال أيام، وحولت القرار للأمم المتحدة، ولولا تدخل الأخيرة لكان هناك مليون شهيد. استنكار الحمصى لموقف الجامعة العربية، لم يكن لصمتها الرهيب تجاه الموقف فى سوريا فحسب، بل طال استنكار لها مما قامت به من طلاء لأحد الأسوار باللون الأسد، لتزيل لافتات التنديد ببشار الأسد، تلك التى كانت معلقة على هذا السور، فيما تحدى الحمصى هذا الموقف المخذى من جانب الجامعة، معلناً أنهم سيعاودون لصق اللافتات مجدداً. من الناشط السورى، إلى أحد أفراد الجالية اليمينة، حيث المشهد الرابع الذى تحول من اللافتات إلى التحدث بنبرة صوت مرتفعة، فكان محمد علي عثمان الذى يقف معتصماً مع زملائه حتى يسقط النظام اليمنى إلى الهاوية. وسط أمنية سقوط نظام على صالح، إذا بفتاة يمنية تدعى إلهام صادق تلتقط أطراف الحديث، لتؤكد فخرها بالمرأة اليمنية التى كان لها الدور الأكبر في اعتصام الجالية اليمنية في مصر، لأنهن أول من دعين إلى هذا الاعتصام، وحفزن وشجعن الشباب، وقدمن إليه الدعم المعنوى، واخترن مقر جامعة الدول العربية لأنها المكان الوحيد الذي من الممكن أن يستوعبهم، وأن المعتصمون لم يفكروا في سفارة اليمن لأنها ليست ذى شعبية أو تأثير في مصر. من مشاهد أسوار الجامعة العربية، إلى مشهد خامس اختلطت فيه الدماء بالوطنية، فما كانت إلهام تتحدث، إذا بمشهد استشهاد طفى يمنى فى المظاهرات يقطع صوتها فجأة، لتتجمع فى عينيها دموعاً لم تستطع إلهام أن تمنعها، فتساقطت بشراهة، ومالبثت أن جفت دموعها مرة ثانية لتبدأ فى الحديث مجدداً وتتحدث بصرخة مدوية قائلة:" مطالبنا ليست صعبة، لانطلب أكثر من تعليق عضوية اليمن في جامعة الدول العربية، وإغلاق القنوات الفضائية الرسمية لليمن، لأنها قنوات تحريضية، تثير الفتنة، لكن جامعة الدول العربية تصرعلي خذلان الشعب اليمني"، وهنا صمتت عن الكلام مرة ثانية، لتعاود دموعها النزول، ثم صمتت، وتشير بيديها "مش هقدر أتكلم"، بينما كانت "دمعة إلهام" ختاماً لمشاهد مأساوية تجمعت حول أسوار مبنى جامعة الدول العربية.