منذ اندلاع شرارة الثورة اليمنية والاحتجاجات السلمية مطلع العام الجاري التي لم تتوقف حتى اللحظة، حضرت بصورة لافته صورة الرئيس اليمني الراحل إبراهيم الحمدي في كل منعطفاتها وتحركاتها ومختلف ساحات وميادين الاعتصامات، إلى جانب صورتي الشاعر محمد محمود الزبيري والأستاذ أحمد محمد نعمان . الحضور القوي لصورة الرئيس الحمدي الذي اغتيل عام 1977 بعد أقل من أربع سنوات على توليه حكم اليمن يبرره الكثيرون لما أحدثه داخلياً وخارجياً بهدف تأسيس دولة حديثة يسودها النظام والقانون والمواطنة المتساوية لرعاياها، وتحمي حقوقهم وكرامتهم خارج وطنهم وتجعل اليمن فاعلاً في محيطه الإقليمي والدولي، ويتداول ذلك حتى من ولدوا بعد اغتياله كقصص وقرارات ومواقف عُرف بها عهد حكمه القصير . وعلى مدى حكم الرئيس علي عبدالله صالح لليمن الشمالي منذ يوليو 1978، عقب اغتيال الرئيس أحمد الغشمي المتهم الرئيسي باغتيال سلفه الحمدي، كان اليمنيون يتهامسون علناً أن الجريمة ارتكبها ونفذها عديد شركاء محليين وخارجيين، منهم الرئيس صالح ومشائخ ضاقوا بتوجهاته لتأسيس الدولة، والنظام السعودي وقوى دولية ضاقت هي الأخرى بتحركاته جنوباً إلى شطر اليمن الجنوبي والقرن الأفريقي . حينذاك، كان الحمدي يسعى للتقارب مع الشطر الجنوبي لليمن الذي يحكمه نظام اشتراكي وإعلان وحدة اليمن، إلى جانب القيام بدور إقليمي بدا غير مرحب به من جانب السعودية وقوى غربية، في مقدمتها الولاياتالمتحدة وفرنسا، وكانت مؤشرات ذلك من خلال تقاربه مع نظامي الحكم في إثيوبيا والصومال الاشتراكيين وتوج باجتماع عقده في مدينة تعز ضم زعماء الدول الأربع .
اغتيال ودعم للادولة ويربط الثوار بين الشهيد الحمدي - كما يصفه كثيرين- وثورتهم الحالية المطالبة بإقامة دولة مدنية حديثة لليمن الواحد، ويعتبرون أن الحمدي كان رمزاً لحلم اليمنيين بإقامة دولة الذي ظهر للعلن في ثورة 1948 ضد الإمام يحيي حميد الدين وتوج بثورة 26 سبتمبر 1962 ويرمز لهما من خلال الشهيد الزبيري والأستاذ النعمان، اللذين كانا يسعيان في نضالهما الطويل ومعهما أحرار اليمن لإيجاد الدولة التي ظلت مجرد حلم ولازالت . لا يقف الأمر عند الاعتقاد العام بوجود شراكة بين الغشمي وصالح والنظام السعودي في جريمة اغتيال الحمدي، الذي استهدف إجهاض مشروعه للدولة، لكن صالح الذي كان للموقف السعودي من الثورة الحالية دورٌ كبيرٌ في تأخير حسم سقوط نظامه بصورة نهائية، هو ذاته الذي حظي بدعم المملكة سياسياً ومادياً وعسكرياً واستخباراتياً بل وقبلياً للبقاء 33 عاماً على سدة الحكم . وبحسب مذكرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر شيخ قبائل حاشد وأبرز حلفاء المملكة القبليين، فإنه لم يكن مقتنعاً بدعم وجود صالح على رئاسة الجمهورية العربية اليمنية، لكن السعودية أقنعته بأهليته وطلبت منه الوقوف في صفه وهو ما ظل مخلصاً له حتى آخر أيامه أواخر 2008 . الأمر كذلك بالنسبة لعلاقة اليمنيين –كشعب- بالمملكة كنظام أسري لا يقف عند هذا، وما يعانيه مئات الآلاف من مغتربيهم في السعودية، إلا أن قائمة الاتهام لصالح الصادرة عن شباب الثورة بشأن ثروته التي جمعها من ثروات البلد والمساعدات والقروض تضمنت بعض بنودها مليارات الدولارات التي تلقاها من المملكة مقابل التوقيع على اتفاقية جدة 2000 التي بموجبها حسم أمر الحدود بين البلدين، وتم بيع الأراضي اليمنية جنوب المملكة التي بسطت عليها في الثلث الأول للقرن العشرين . بالإضافةً إلى ذلك، هناك مليارات أخرى يعتقدون انه حصل عليها ثمناً لحروب صعدة الستة التي خاضها بالوكالة –كما كان يدعي- نيابة عن المملكة وأمريكا ضد إيران وحزب الله اللبناني من خلال الحوثيين، ومليارات مشابهة قدمتها المملكة ثمناً لبيع مواقف اليمن إقليمياً ودولياً لصالحها وآخرها في قمتي الدوحة ودمشق .
قائمة طويلة أجهضت لدى اليمنيين قائمة طويلة من الأحلام التي كان للسعودية دور أساسي في إجهاضها ابتداء من ثورة 1948 الدستورية، حينما وقفت إلى جانب الإمام أحمد حميد الدين بعد اغتيال والده رغم عدائها المذهبي ظاهرياً للأئمة، وخدعت الثوار الذين سعوا لإعلان اليمن مملكة دستورية ودولة مؤسسات على أنقاض الحكم الإمامي الوراثي . وتكرر الأمر باستمرار دعمها للأئمة الذي توج بوقوفها إلى جانبهم ضد ثورة سبتمبر 1962 واحتضان قواتهم التي حاربت 8 سنوات ودعمها سياسياً ومادياً وعسكرياً، حتى فرضت المملكة السعودية مصالحة غير عادلة، بعد تراجع الدور المصري الداعم للثورة، أفرغت الأخيرة من مضمونها ونخرت «الحُلم» في العظم، لتسلم اليمن بعد 8 سنوات أخرى لحكم أُسري آخر (الصالح) بعد التخلص من الحمدي وقبله النعمان والزبيري وآخرين . في المقابل، لم تقدم الشقيقة والجارة الكبرى – بل لم تستخدم- أموالاً أخرى لأجل التنمية في البلد، وركزت أموالها في دعم صالح، وتقوية نفوذ مشائخ القبائل، واعتمدت عليهما في إجهاض أحلام اليمنيين مرةً تلو أخرى وحرمتهم من دولة المؤسسات التي تحتكم للنظام والقانون وتحد من الأمية والجهل وتخفف من الفقر والمرض، ولم يُلمس لها أي منجزات ممكن وضعها في خانة البنية التحتية والمشاريع التنموية على عكس دول أخرى كالكويت التي شيدت الجامعات والمدارس والمستشفيات وغيرها . قواسم التوتر المشترك بين الشعب اليمني والنظام السعودي كثيرة، حيث أن المملكة تحتضن أكبر جالية يمنية تؤكد بعض التقديرات أنها تزيد عن المليون، ورحلت قرابة المليونين عقب غزو العراق للكويت في أغسطس 1990، والجميع يتحدث عن تعبئة سيئة ضد اليمنيين وتمييز في التعامل وأوضاع غير إنسانية وحقوق مسلوبة وانتقاص من الكرامة، زادت وتيرتها منذ شمل نظام الكفيل المقيمين اليمنيين، ويتشارك في مسئولية تلك المعاناة السعودية وصالح كرئيس كان همه فقط تلقي الدعم لنظام حكمه .
امتيازات ذهبت بصفقات قبل أغسطس 1990 كان المقيمون اليمنيون يتمتعون بامتيازات خاصة نوعاً ما، وفرتها اتفاقية الطائف الموقعة بين المملكة السعودية والمملكة المتوكلية اليمنية في عام 1934 بشأن ترسيم الحدود بين البلدين بعد حرب انتصرت فيها الأولى وبسطت نفوذها على مساحة شاسعة من الأراضي اليمنية في منطقة تهامة وإقليم عسير الذي كان يحكمه الأدارسة ولجؤوا لها لتحميهم من نظام الأئمة . في الواقع فإن اتفاقية الطائف تلك وفرت امتيازات لليمنيين لم يحرص عليها صالح ونظامه حينما وقع اتفاقية جدة، وظل يخدع شعبه بما عرف باستيعاب العمالة في السعودية والخليج، فيما زادت إجراءات تضييق الخناق وآخرها في يونيو الماضي بمنع اليمنيين من العمل في مجالات عديدة منها محلات الملابس التي يتواجد فيها اليمنيين بكثافة . حالياً، ترى مكونات الثورة الشعبية السلمية، على اختلاف مشاربها، أن للمملكة الدور الأكبر بتأخر الحسم ورفدت صالح ونظامه بعوامل البقاء حتى هذه اللحظة رغم ما شهده من انهيارات وتصدعات أعقبت مجزرة جمعة الكرامة (18 مارس 2011)، حيث منحته مزيداً من الوقت لترتيب أوراقه عبر المبادرة الخليجية، متزامناً مع تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي للاستقواء على الثورة وتعطيلها وقمع مؤيديها بمن فيهم من كانوا في صف نظام صالح عسكرياً وسياسياً وقبلياً وبعضهم هم حلفاء للمملكة ذاتها . لم تتوقف المسيرات المرفوع فيها صور الرئيس الحمدي ولم تتعطل الاعتصامات التي يهتف فيها الثائرون بأنهم أحفاد لأبي الأحرار الزبيري أو المؤكدة على أنهم تلاميذ للأستاذ النعمان، ويبدي الشباب الثوار إصراراً عجيباً وصموداً أسطورياً للاستمرار حتى النهاية ورفض محاولات المملكة وغيرها تمييع الثورة وتحويلها لمجرد تغيير سياسي محدود، خاصة بعد انفجار جامع الرئاسة الذي أخرج صالح من اللعبة إلى حدٍ ما . غير أن وتيرة الكره لمن يعتبرونه متهماً رئيسياً زادت، وتضاعفت حالة الرفض لأي تدخلات أجنبية في الشئون اليمنية تهدف لإجهاض ثورة الشعب السلمية ويرمون بكرة رفضهم تلك إلى السعودية، وإلى الولاياتالمتحدة بدرجة أقل، على اعتبار أن الأخيرة فوضت الأولى منذ عقود بالشأن اليمني باستثناء ملف الإرهاب .
الكره للمملكة يتصاعد يؤمن شباب الثورة أن السعودية تسعى لإجهاضها وتقف حجرة عثرة أمام انتصارها الحاسم وتعمل على تمييع ما أحدثته الثورة من تغيير ميداني في الوعي والسلوك والممارسة واصطفافا وطنياً بصورة أدهشت المطلعين على تفاصيل المشهد اليمني، وهو مما يضاعف الكره والعداء للمملكة في أوساط شريحة الشباب التي تشكل قرابة ثلثي سكان البلاد، حتى لدى الشباب المتدين السلفي –وليس الإخواني فقط- الذي كان يعتبرها كحامي حمى الإسلام السني حسب ما روجت له خلال قرن . لم تسلم من حالة الكره والتذمر هذه، حتى أحزاب اللقاء المشترك التي قبلت إرضاءً للسعودية والأوروبيين والأمريكان، السير في المفاوضات والمبادرة الخليجية التي رفضها صالح، ويرونها –المبادرة- إحدى تجليات العداء السعودي لأحلام اليمنيين وتطلعاتهم وطموحاتهم، بل الكارثة –بحسب شباب الثورة- أن المملكة التي ترفع لواء الإسلام الذي كرم الإنسان وشدَّد على حماية حياته وعرضه وممتلكاته وحقوقه واعتبر «هدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من هدر دم امريءٍ مسلم»، وقفت صامته حتى اللحظة إزاء المجازر والمحارق التي ارتكبها صالح وبقايا نظامه العائلي ضد المعتصمين سلمياً وأبناء الشعب شمالاً وجنوباً . الحقيقة الصادمة لمن لا يحبذ نجاح الثورة اليمنية، فإن شباب اليمن حالياً يختلفون عن من عاشوا الفترة التي فرضت السعودية مصالحتها بين المتحاربين (الجمهوريين والملكيين) بعد أن استفردت باليمن جراء انسحاب الدور المصري على ذمة نكسة حزيران 1967، فشباب اليوم يعون أن السعودية يفزعها معنى ثورة ستتحقق في اليمن ستخرج البلد من وصايتها وتؤسس لدولة مدنية ديمقراطية وتهدم آخر أصنام الحكم الأسري الذي كاد أن يتحول وراثياً برضا ودعم سعودي وأمريكي . من خلال النقاشات في الوسائط الاجتماعية ومنتديات ساحات وميادين الاعتصام في 17 محافظة يمنية، يبدو الشباب اليمني وقد صار مدركاً أن السعودية تسعى لتمييع ثورتهم والخروج بانتقال سلس للسلطة يتبدل فيه الأشخاص إذا لم تتمكن من الإبقاء على أبناء الرئيس وإخوانه وأبناء شقيقه في مناصبهم العسكرية والأمنية والمدنية، وهو ما ينتهي إلى اللاثورة باعتباره لن يحدث تغييراً شاملاً في القمة والقاعدة كما يطمحون وتتمخض عنه نصوص دستورية تؤكد مدنية الدولة وديمقراطيتها ومؤسساتها المستقلة وسيادتها واستقلال قرارها وحماية حقوق الإنسان وحرياته فيها . سارعت السعودية للاهتمام بصالح وبعلاجه من إصاباته جراء انفجار 3 يونيو بجامع دار الرئاسة وأبقت حقيقة حالته الصحية يكتنفها الغموض وتسودها التسريبات ما تسبب بتعليق حسم الثورة، واستمرت بالحديث عن مبادرة خليجية رفضها شباب الثورة وصالح، وحظي الأخير بالتدليل وتوفر له الصبر رغم إهانته للسعودية ودول الخليج عامة بتلكؤه ورفضه التوقيع عليها ثلاث مرات ومحاصرة وفد أمانة مجلس التعاون والسفراء داخل سفارة الإمارات العربية بصنعاء . بل ومارست الضغط على حلفائها وفي مقدمتهم شيخ حاشد صادق الأحمر لإيقاف المعارك مع بقايا النظام بعد أن حقق أنصاره انتصارات وأطاحوا بهيبة قوات الحرس الجمهوري والعمليات الخاصة والأمن المركزي، لكنها لم تلتفت أو تهتم بما يتعرض له الآمنون في قراهم من قبائل أرحب ونهم والحيمة بمحافظة صنعاء ومئات الآلاف في مدينة تعز أو في أبينوعدن والعقاب الجماعي والحصار لملايين اليمنيين عبر إخفاء المشتقات النفطية وإطفاء الكهرباء ما ينذر بمجاعة وكوارث إنسانية .
خطوة أو خيار آخر وبين ما تريده المملكة السعودية وما يطمح إليه شباب الثورة اليمنية، بدا أن الحالة في اليمن وصلت إلى طريق مسدود، ينتظر اليمنيون أن تتقدم المملكة خطوة للأمام ليحصدوا ثمرة نضالهم السلمي منذ أكثر من ستة أشهر وإعلان انتصار ثورتهم، والشروع في بناء ما يريدون من دولة ما سيخفف من حالة الاحتقان المتصاعدة تجاهها في ظل تأكيدات سابقة بأنهم (الشباب) ملتزمون بالاتفاقات الدولية والثنائية وعدم التدخل في شئون الآخرين أو الإضرار بهم وسيكونون شركاء حقيقيين في مكافحة الإرهاب . وما لم فإن الموقف يتجه نجو خيار الحسم الثوري بعد أن ينفد صبر الشباب وتتضاعف حالة الملل التي بدأت تتسرب إليهم، وبالتأكيد ستصل شظايا هذا الخيار إلى داخل المملكة وستكون علاقات البلدين مختلفة عما يطمح له الطرفان، بل قد تبدأ مرحلة جديدة من الفوضى التي خطط لها النظام سيكون المتضرر منها بالتأكيد أمن واستقرار المملكة جنباً إلى جنب مع أمن واستقرار ووحدة اليمن ولن تسلم منه المياه الدولية في البحرين العربي والأحمر وخليج عدن والمنطقة برمتها . تعتقد المملكة وعديد من الدول خاصة الأمريكان والاتحاد الأوروبي أن الشباب الذين في الساحات هم في غالبيتهم مجرد أعضاء في أحزاب اللقاء المشترك، ومن السهل ممارسة الضغوط على الأحزاب لفرض ما تريده من حلول لا تحقق الأهداف التي من أجلها اندلعت الثورة وخاصة وجود دولة مدنية ديمقراطية بمؤسسات مستقلة كان يطمح إليها الزبيري والنعمان ويعمل لأجلها الرئيس الحمدي . غير أن الجميع، خاصة المملكة، لا يدركون أو لا يريدون إدراك أن أعضاء أحزاب المشترك لم يعودوا هم ذاتهم الذين كانوا قبل اندلاع شرارة الثورة، فما أحدثته الثورة في الوعي العام أثر كذلك على علاقتهم بقيادات أحزابهم وبمجرد شعورهم بتخاذل الأحزاب ورضوخها لرغبات المملكة والقوى الدولية بالخروج ب«لا ثورة»، فإن أول من سيثورون عليه هي قيادات أحزابهم .