بقدر ما يعني التسامح الاعتراف بالآخر والقبول بالاختلاف والمغايرة التامة بقناعة وجدانية وإنسانية منطلقة من فهم المعنى العام للتسامح، فهو بالتالي العيش المشترك مع الآخرين وبجوارهم على أساس هذه القناعة التي تعمق ترسيخها على الواقع وليس على مستوى الأفكار فقط. ولا يقتصر ذلك على فرد أو جماعة أو طائفة دون الأخرى، بل هو قيمة إنسانية تعزز مكانة وكرامة الإنسان وتساعد على تقدمه واستقراره. التسامح الاجتماعي في الواقع اليمني: تعاني اليمن من التخلف والتعصب القبلي، ولذا فهي محكومة ومرغمة على التعاطي مع هذا الواقع ولا يمكن إنكاره أو تجاوزه، وهي لذلك كذلك، فمن الطبيعي أن تكون متأثرة بإرثها وتقاليدها، وتسيرها في مواطن كثيرة منظومة الأعراف والعادات والتقاليد التي تحكم المجتمع بكياناته القبلية المتعددة والتي تتجاوز وتتحدى بذلك قيم الحداثة والمدنية.. ويؤدي التعصب القبلي إلى انشداد المجتمع نحو التوترات والنزاعات المختلفة، وتمثل القبيلة هنا مرجعية رئيسية لحل المشاكل أو رد الحقوق أو لفرض أحكام تقوم في كثير من الأحيان على الباطل بين أفراد المجتمع. ويظهر التسامح هنا في ثقافة العفو عند المقدرة أو التسامح من أجل الكسب أو الولاء للآخرين، كما يبدو في حدود الكرم والنخوة القبلية التي لا تعبر عن تسامح حقيقي ينبع من القبول بالاختلاف والتنوع والاعتراف بالآخر أو التآخي الإنساني الذي لا يتطلب له مقابلاً، كما يظهر لدى اليمنيين تمييز واضح ونظرة دونية إلى الفئات الاجتماعية الدنيا أو الملونة.. وهناك تفاوت في الشعور بالمساواة والمواطنة، وبالحقوق والامتيازات، وهذا ما كان يكرسه النظام على الواقع والذي أدى إلى نمو الكراهية وتوسع الصراعات وارتكاب العنف في هذا الصراع القبلي، وكل ذلك لا ينسجم ولا يتواءم مع روح ومبدأ التسامح الذي ننشده، ولقد عمل النظام على تكريس الثارات وخلق التوترات المجتمعية والتناحرات الداخلية حتى اقترب من سياسة فرق تسد. وكان النموذج في ذلك أن اليمن أصبحت مركزا أكاديميا للتطبيق في دراسة الطب الجراحي المتخصص بالإصابات الحادة (السلاح الأبيض) والطلقات النارية (مستشفى الثورة العام) ويفد إليه الطلاب العرب للدراسة في هذا التخصص نتيجة لكثرة وتنوع الحالات القادمة إلى المستشفى. في جانب آخر، اجتماعيا مثل دور المرأة دوراً أدنى في المجتمع، مما جعل التسامح مع المرأة مغيبا وربط حياة المرأة باضطهاد وسيطرة الرجل واعتبرها ناقصة عقل ودين بدون فهم للبعد الدلالي للمعنى الديني العام، كما اعتبرها عورة وفرض عليها قيود السيطرة الجسدية والفكرية والإنسانية وفي الأسرة يقوم الدور الاجتماعي على الهيمنة الأبوية والسيطرة التقليدية وفرض التسلسل الهرمي الذكوري دون الإناث اللاتي يقع عليهن العبء والظلم الأكبر. كما تنعدم الرعاية الأسرية للأب على الأطفال مع كثرة الإنجاب وعدم معرفة الواجب والحقوق الإنسانية وحتى الدينية تجاه الأطفال مما جعل من تهريب الأطفال إلى بلدان الجوار مزية للكسب في ظل انعدام حقوق هؤلاء وضياع كرامتهم ومستقبلهم، وهو بالتالي محو لقيمة الإنسان اليمني بفعل عدم الاهتمام به وعدم احترام آدميته. التسامح الاجتماعي في ظل الثورة: الثورة دائما فعل متحمس وهذا الحماس قد يخفي وراءه المشاكل الاجتماعية المختلفة مؤقتا، لكن ذلك لا يعفي الواقع الاجتماعي بمكوناته العديدة من التعصب أو يلغيه في هذه اللحظة. فالتعصب للثورة مثلا من قبل بعض أطياف المجتمع، الكثير منها يعبر عن امتداد نفسي في النسيج الاجتماعي لموقفها إزاء ظاهرة التعصب وبمدلول سيكولوجي يحدد موقفه من الثورة معها أو ضدها، على عواهنها والذي يخضع للظرفية أو عوامل أخرى لتحديد هذا الموقف بعيدا عن الاختيار الواعي والقناعة الفكرية. ولا يعني ذلك تقليلاً من حماس وتفاعل وقناعة الكثيرين المدرك لمبدأ ضرورة قيام الثورة وتحقيق أهدافها، ولكن التضليل على الواقع، ومدعاة التفاخر الموظفة سياسيا بالادعاء بالموقف الاجتماعي الواعي، هذه العوامل لا تزيل الغشاوة عن الواقع ولا تصنع استعداداً لحلول حقيقية حاليا أو لما بعد الثورة لمشكلات المجتمع وعملية التعايش فيه، بل يمكن أن تكون زيادة في التضليل للواقع وإكسابه تعتيماً أكبر بدلا من التنبه لوضع الحلول. لأن من بيدهم الحل والعقد هم الذين يتحكمون بالمشهد السياسي الثوري وطريقة سيره. وعلمنا الإرث التاريخي للمجمع اليمني ان مثل هؤلاء يهدفون عادة لخدمة مصالحهم لا مصالح البسطاء أو لمصلحة الوطن. هذا الأمر لا يخرج عن كونه سلسلة متواصلة لنسق الأحداث المرتبطة بالواقع كمتغير اجتماعي بطيء التغيير لا يأتيه ذلك صدفة أو بنقلة سحرية قادمة من الفضاء الخارجي بل هي طبيعة التحول في المجتمعات، إلا أن الإنسان اليمني أكثر انجراراً إلى الماضي وأكثر ارتباطا بواقعه المتجمد بحكم الموروث المتناسل عن العادات المتيبسة والمتصلبة وهذا ما يقودنا إلى الحكم على انعدام التسامح في المجتمع اليمني بصورة كبيرة، ودليلنا على ذلك أن الجماعات أو الأفراد القبليين الذين يقومون بقطع التيار الكهربائي وتدمير أبراج الكهرباء يهدفون إلى حرمان الشعب أو المواطن ذي الحاجة أو البسطاء عامة من حقوقهم ومتطلباتهم الحياتية واليومية المرتبطة بالتيار الكهربائي، وبالمثل الذين يقومون بالتقطعات على الخطوط والطرقات أو الذين يتقطعون للمسافرين ولناقلات النفط والغاز والمواد الغذائية هم الذين يرتكبون جرائم الاعتداءات على حقوق الناس ومصالحهم ويهدفون إلى إرباك الحياة وإعاقة مصالح الجميع.. مثل هذا السلوك يمثل قمة الاعتداء والانتهاك لحقوق الآخرين وبصورة فجة لا تستقيم مع مبدأ التسامح ومرتكزاته وأبعاده ولا توفر سبيلاً للتعايش والتبادل والتلاقي بين الجميع في سبيل حياة حرة وكريمة وآمنة ومستقرة ولا كذلك متطورة، بهذا لا يمكن للتسامح أن يجد طريقه إلى المجتمع إلا على المدى البعيد، وهذا يقودنا إلى النتيجة التالية: - إن المجتمع اليمني مجتمع متناحر بطبيعته بفعل الثارات والفتن والمشاكل العديدة في طول البلاد وعرضها والتي استمرأها بفعل تشجيع النظام السابق وبشكل مستمر لها ولا يعرف من التسامح إلا ما هو عرفي متشظ عن العادات والأعراف القبلية التي تعتبر التنازل والتسامح مكرمة من القوي إلى الضعيف أو من الأعلى إلى الأدنى أو بدوافع النخوة القبلية والكبرياء القبلي الذي لا يتفق مع التسامح الحضاري. - إن من بين الرموز والوجهاء ونخب السياسة الملتحقة بالثورة أو المحركة لها وبعض رموز النظام السابق من لديهم الدراية الكاملة بالنمط السلوكي الإرثي في المجتمع وكيفية انقياده والتحكم به عرفيا ولكن هؤلاء لا يحركون ساكنا تجاه عدم الاستقرار في تربص رهيب لاستغلال الوضع وفي تحين مخادع لكسب المواقف الشخصية على حساب المصلحة الوطنية العليا. - إن من بين الوجهاء وبعض المشائخ وبعض رموز في النظام ومن خارج الحكومة هم تجار حروب ومثيرو فتن ومشعلو حرائق لا يعيشون ولا يكسبون ولا تكتمل مصالحهم إلا في حالة عدم الاستقرار ويتوقون إلى استمرار الحالة إن لم يثيروها أكثر وهذا نتيجة لانعدام التسامح في الحياة الاجتماعية وسيستمر الوضع كذلك إذا لم تلتفت الحكومة الجديدة إلى جدية هذا الأمر وخطورته الحالية والمستقبلية. - انعدام التسامح يخلق أجواء عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي وزاد ذلك في ظل الثورة، وبحكم أن القاعدة لا تنشط وتتوسع إلا في مثل هذه الظروف. فإن هناك خيط رفيع بين النظام السابق وبين أجزاء من القاعدة بفعل اللعبة التي كان يمارسها ويستخدمها لصالحه وأيضا لا زالت هناك شعرة معاوية مع أطراف أخرى متلحفة بالثورة مرتبطة بعناصر من القاعدة الأمر الذي أوصل طلائع منها إلى الساحات باسم التغيير وربما يتم الالتقاء الفكري بين هؤلاء والقاعدة على مائدة بعض القواعد الفقهية وسلفية التطبيق فتقع الثورة في دائرة عنف لا ينقطع أمده. القضية الجنوبية والتسامح الاجتماعي: إن النظام القبلي العشائري والأسري الذي عمل على الاستئثار بالمصالح المادية في الشمال والجنوب هو الذي خلق القضية الجنوبية وأوصلها إلى خط اللاعودة، بعد أن نزغ بين أبناء الشمال والجنوب، وخلق العداء وأجج الكراهية ووضع الفواصل والقواسم النفسية بينهم ووسع الخرق على الراتق، وأطلق أيدي مواليه ومقربيه ونافذيه على أرض الجنوب وأناسها، فأوسعتها هذه الأيادي عبثا وإمعانا في التخريب والتمزيق، حتى وصلت الأمور إلى فصام مجتمعي بين الشمال والجنوب. إن الكراهية والعداء المزروعة بين أبناء المجتمع لا تستقيم مع مبدأ التسامح. والوحدة التي بنيت على مبدأ ونموذج التسامح قد وجدت من يخلع عنها ثوبها ويبطنها بأشواك الشحناء والتباغض، والمعروف عن التسامح إذا لم ينطلق من المشاعر والوجدان والقناعة التامة والرضى والتوافق من قبل البشر لا يمكن أن يؤدي غرضه ولا يمكن أن تكون هناك أسس للتعايش مهما كانت القوة، فالقوة لا تجلب إلا الدمار والتنافر. وبناء التسامح وغرسه في المجتمع أو بين الشعوب يحتاج إلى الوقت الطويل والأمد المديد. والحالة هنا أشبه بالبناء والهدم، فالهدم سريع بالفعل والعمل ويمكن الوصول إليه مطلقا. لكن البناء كما هي حكمة الحياة بطيء ولا يمكن تحقيقه إلا نسبيا، خاصة عندما يتمثل ذلك بالإنسان والمجتمع وليس بالمادة الصماء. والأصعب أن يكون بناء وغرس التسامح بعد نقضه واقتلاعه باقتلاع أسسه ومقوماته التي بنيت عبر الزمن الطويل، ومحاولة إعادته بعد أن كان حقيقة على الواقع أصبحت أقرب إلى الاستحالة في الوضع الحالي ويتطلب العمل على غرسه وإعادته الروح الإنسانية خلال أجيال وأجيال. وكل حل لا يعتمد التسامح وسيلته فليس بالحل، إنما هو تلفيق عرفي بدائي وجزافي مغاير يعاكس توجهات الحياة ويتنافى مع روح وقيم العصر والحضارة القائمة على حق الإنسان واحترام حريته ومكانته وكل طموحاته المشروعة. والله الموفق.