كتب/د. ناصر محمد ناصر هل الهوية ثابت أم أنها متغير؟ هل هي أصل في الإنسان، أم أنها طارئ دخيل؟ للإجابة على هذين السؤالين دعونا ننظر في التالي: إذا نظرنا في تاريخنا القطري أو القومي أو في تاريخ الأمم الأخرى، فسنصل إلى نتيجة مؤداها أن الهوية لا هي أصل، ولا هي ثابت، وإنما هي متغير ومتطور لا يلبث أن يتغير ويتطور. فمثلاً نحن اليمنيين، كنا قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة نتحدث اللغات القديمة كالسبئية والحميرية، وكنا نعتنق ديانات وثنية، ولا ندري ماذا كنا قبل ذلك، ولا ماهية اللغات والديانات التي كانت سائدة قبل الحضارتين السبئية والحميرية. ولا نعرف الظروف والملابسات التي أدت إلى موت واندثار لغاتنا القديمة، ولا كيف وفدت اللغة الغربية إلى هذه البلاد، ولدينا معارف قليلة ومتفاوتة عن الظروف التاريخية التي أدت إلى تحول اليمنيين من الوثنية إلى الديانة اليهودية، ثم المسيحية، ثم إلى الإسلام، فالثابت هنا أننا لم نكن لا عرباً ولا مسلمين، ولكننا بتنا اليوم كذلك. وكذلك حال بلاد العراق والشام ومصر والمغرب التي كانت تتحدث لغات سومرية وفينيقية وفرعونية وبربرية، وتدين بديانات مختلفة، فسكان هذه البلاد لم يكونوا لا عرباً ولا مسلمين، ولكنهم اليوم باتوا كذلك. ولا تختلف بقية شعوب الأرض عن ذلك، فقد كان الأوربيون -على سبيل المثال- يتحدثون اللغة اللاتينية، فلم يكونوا لا ألمان، ولا فرنسيين، ولا إيطاليين، ولا إنجليز، وكانت لهم دياناتهم قبل أن تفد إليهم المسيحية من الشرق. إذاً من الثابت هنا، وبالوقائع التاريخية التي لا يمكن أن يختلف عليها اثنان، أن الهوية ليست ثابتاً وإنما هي متغير ومتطور. وبالمثل فإنه يمكن البرهان على أن الهوية ليست أصلاً في الإنسان ولا هي ضرورة لبقائه وإنما هي فضلة زائدة، وطارئ اجتماعي مدخل على الوجود الإنساني، فلو أن أحدنا ولد في الهند أو الصين لكان يتحدث إحدى اللغات الهندية أو الصينية، ولكان يعتنق الهندوسية أو البوذية وربما كان من المتعصبين لها. ولو ولد في جنوب القارة الأمريكية لكان يتحدث اللغة البرتغالية أو الأسبانية، ولكان يعتنق المسيحية. ولو ولد في أحد أدغال أفريقيا، لكان يتحدث لغة أو رطانة محلية ليس لها أبجدية، ولكان يدين بإحدى الديانات المحلية، ولو أن هذا الذي ولد في أحد أدغال أفريقيا ولد في مجتمع راقٍ ومتمدن لكان أقرب إلى التفكير العقلاني المتحرر من كل موروث اجتماعي أو تاريخي. والسؤال المنطقي الذي تطرحه مسيرة التاريخ، هو كيف سيكون وضعنا بعد ثلاثة آلاف سنة؟ أي لغات حينها سيتحدث بها أحفادنا وأي ديانات سيعتنقون؟ هذا إن بقي وجود للديانات من حيث الأساس. هل ستذوي وتذوب اللغات المحلية والوطنية، وتتسيد لغة عالمية واحدة؟ هل ستذوي وتتلاشى الديانات المعاصرة اليوم، وتحل محلها ثقافة علمية تهيمن على عالم وأجيال الغد؟ هل سيترتب على هذه التغيرات والتطورات ميلاد دولة عالمية واحدة؟ كيف سينظر إلينا أحفادنا بعد ثلاثة أو أربعة آلاف سنة؟ هل سينظرون إلينا على أننا مجرد كائنات ديناصورية كانت تعيش حالة من الفوضى الثقافية واللغوية؟ لا شيء عصي على التغيير. فمن الثابت اليوم أن منظمة اليونسكو تصنف كثيراً من الثقافات والديانات واللغات -ومنها على سبيل المثال اللغة العربية- بأنها من ضمن اللغات المهددة بالانقراض. إذا نظرنا إلى الإنسان في أفق وإطار صيرورته التاريخية الممتدة لآلاف السنين فسنجد أن الأصولية هي نتاج النظرة الآنية الضيقة، والتي لا يمكن أن تنتج سوى فكر ضيق يعود بالدمار والبؤس والشقاء على الإنسان، وهذا ما يحدث اليوم في أكثر من قطر وأكثر من مكان من صراع للهويات الضيقة والزائفة على اختلاف مسمياتها، التي لا تستطيع أن تميز بين جوهر الإنسان وما يطرأ عليه بفعل تأثير محيطه، ولا تستطيع أن ترى الإنسان في إطار امتداد تطوره التاريخي الطويل. [email protected]