استغلت الولاياتالمتحدةالأمريكية (في زمن الحرب الباردة) القوى الأصولية المتطرفة لتحقيق مآربها لمحاربة عدوها المد الشيوعي آنذاك، بدأ ذلك من أفغانستان، وحركت أجهزتها واتصلت بحلفائها في الدول العربية والإسلامية منذ العام 1979م، وأطلقت يد المخابرات المركزية الأمريكية ال(سي. آي.إيه) ووضعت تحت تصرفها الإمكانات التي يتطلبها العمل لصد التغلغل الشيوعي نحو الخليج، واستجابت الأنظمة والأحزاب الإسلامية لنداء واشنطن. وفتحت دول الخليج خزائنها على مصراعيها، فتدفق المال والسلاح إلى أفغانستان، كما فتحت حدودها أمام المتطوعين للحرب ضد الكفار، وتولت الأحزاب الإسلامية توفير الذخيرة البشرية من أتباعها ومن الشباب الذين تعرضوا لحملة التحريض والتعبئة من خطباء المساجد والوعاظ وكأن الجنة قد فتحت أبوابها لهم هناك.. اتفقت كل الأحزاب الدينية على الحرب المقدسة.. أصبح الدعاء للمجاهدين والدعوة لنصرتهم بالمال والدم يملأ المساجد والساحات. وصور الجهاد في أفغانستان كأنه يفوق جهاد المسلمين على كفار قريش في بداية الدعوة الإسلامية، وتدفق عشرات الآلاف من الشباب الصغار في السن إلى أفغانستان، وفي عشر سنوات عُزلوا عن العالم، أذعنوا مسلّمين عقولهم لجرعات مكثفة من التعاليم والنصائح التي تلهي العقل عن المعقول وتضخمه ضد الخصم المجهول، وتحث الروح والبدن على قتل الكفار واستباحة أموالهم وأعراضهم وحرماتهم، وكل خصم مخالف هو كافر من كل دين بما في ذلك المنتمين للدين الإسلامي.. هذه كانت محرقة أفغانستان للشباب الذين ساقوهم إليها رجال المخابرات الأمريكان والحكام والوعاظ تحت راية الشهادة. حققت أمريكا الغرض فكان لها ما أرادت في أفغانستان، وتركت المجاهدين وراء ظهرها، ولم يجد الذين عبئت قلوبهم بالحقد على الكفار سبيلا غير مواصلة الجهاد ضد من قيل لهم أو أفتى لهم أمراؤهم بأنه كافر.. عاد المجاهدون اليمنيون ومعهم الكثير من العرب الأفغان والأجانب بتعليمات من زعيم القاعدة أسامة بن لادن في العام 1990م إلى اليمن، ولأن ابن لادن ترجع أصوله إلى محافظة حضرموتجنوب اليمن، لذا فقد اهتم كثيرا في نشر فكرة الجهاد بين اليمنيين من أجل محاربة الفكر الاشتراكي كما يدعي رغم أن الوحدة قامت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ويقول احد المختصين في كتابة سيرة ابن لادن "بعد بقاء ابن لادن في السودان بداية التسعينيات امتدت علاقته إلى اليمن، وهناك ساهم في تأسيس سبعة معاهد تعليمية في الضالع ولحج وعدن، وتبرع ببناء الجامعة الإسلامية في تعز، إضافة إلى ذلك نسج علاقات وثيقة مع طارق الفضلي أحد أكبر زعماء الأصوليين في اليمن، ومع الشيخ عبدالمجيد الزنداني، وقد تردد في تلك الأثناء 1993م أنه كان وراء افتتاح عدد من معسكرات التدريب للأفغان العرب في صعدة، وفي العام 1994م وجهت السلطات اليمنية اتهاما له بأنه والأفغان العرب مسئولون عن تفجير عدة منشآت نفطية، وكذلك عن الهجوم على فندق عدن عام 1992م، الذي استهدف أمريكيين كانوا في طريقهم إلى الصومال (راجع نبيل شرف الدين، بن لادن، طالبان، القاهرة عام 2000 صف38) بعد عودة المجاهدين بعد قيام الوحدة مباشرة باشر المجاهدون اليمنيون والعرب والأجانب الأفغان مشوارهم التعبوي الدموي عبر تنفيذ خطة تصفية الخصوم من الشيوعيين، شركاء الوحدة، تقودهم قوى نافذة من أركان النظام اليمني، فقضوا بالقتل على أكثر من 150 كادرا أو قياديا في الحزب الاشتراكي اليمني وفي وضح النهار، هذا قبل الحرب، أما بعد الحرب فقد استبيح الجنوب كله للمجاهدين وغير المجاهدين، وسمى المجاهدون أنفسهم (طلائع الفاتحين)، ويقال إنهم أكثر من خمسين ألف مقاتل جهادي في سبيل الله.. دخلوا أسوار الجنوب برفقة جيش النظام ومليشيات القبائل كما سلح العمال والفلاحون في الشمال من أجل غزو أرض الجنوب، فكان كل المشاركين في هذه الحرب الظالمة نافذين ومنفذين، آمرين ومأمورين، لم يكن همهم الوحدة كما يدعون سواء أكانت الجغرافية أم الوطنية، بل كان همهم الفيد والغنيمة والسلب والنهب وما سيتحقق بعد. بعد تمدد المجاهدين في اليمن وسعت السلطة عليهم بالتسهيلات ومنحتهم الامتيازات وعملت على توظيف بعضهم في الأجهزة الأمنية والعسكرية والمدنية وأكثرهم بتوجيهات قائد الفرقة، كان ذلك بعد الوحدة وتم الاستفادة منهم كثيرا في تصفية الخصوم من شركاء الوحدة، مع تهيئتهم وإعدادهم لمرحلة الحسم في الحرب المقدسة، وسمحت لهم السلطة بتنظيم أنفسهم وبناء المعسكرات والتدريب فيها، كما سمحت لهم بتأسيس جيش (عدنأبين) وحددت لهم وقع تمركزه في جبل المراقشة في محافظة أبين، بعدها بدأت الحكاية في لعبة النظام السياسي والقبلي مع القاعدة، وهي (لعبة القط والفأر) إلى أن تروضا مع بعضهما.. وعاشا على المصالح المتبادلة، ثم تشابكا أكثر وتصاهر الرموز منهم، فكانت علاقة النسب بين اللواء علي محسن والشيخ طارق الفضلي لحاجة كل منهما للآخر، فحاجة قائد الثورة والفرقة لرمزية جهادية جنوبية مهم للمستقبل، وحاجة رمز جهادي لعملاق قبلي يحميه شيء مهم لتكامل الدور القاعدي في اليمن وبالأخص في الجنوب، ثم استمرت الحكاية، كان يطلق على الشيخ طارق الفضلي من قبل السياسيين والعامة مسمى (الصندوق الأسود لتنظيم القاعدة في اليمن).. وفي سؤال وجه في مقابلة مع الشيخ الفضلي في صحيفة "اليمن اليوم" يقول: هل شاركت في إنشاء تنظيم القاعدة في اليمن؟.. يجيب عليه الصندوق الأسود بالقول: "المسئولون في هذا البلد سواء أكانوا سياسيين، أو عسكريين، أو أمنيين، أو قادة أحزاب كلهم متورطون في التعامل مع القاعدة، ولهم علاقة بالجهاد والإرهاب، وبالنسبة للجهاد باسم الدين ليس شيئا جديدا على اليمن، هو موجود من قبل الوحدة في السبعينيات، كان يتم استخدامهم في الصراع بين الشمال والجنوب، وتم استغلالهم في الحرب على الشيوعية، وجاءت الوحدة والجهاد له جذور في السبعينيات وفي التسعينيات، وتم التعامل معهم من (بعيد لبعيد)، ثم يضيف الفضلي بالقول: وفي عام 1994م تم استغلالهم في الحرب، وحزب الإصلاح أكثر من احتضنهم حينها، وكانت الحكومة ليست بعيدة عنهم واستخدمتهم في ابتزاز الجيران ومغازلة الأمريكان، وكان علي محسن مسيطرا على الجهاديين ويتقوى بهم، كما يقول الفضلي، مؤكدا أن السعودية ترحل الجهاديين إلى اليمن وغالب القمش يستقبل، والآن أصبح الكل يريد أن يتخلص منهم" (انظر صحيفة اليمن اليوم العدد (196) 19 ديسمبر 2012م مقابلة مع الشيخ طارق الفضلي، ص13، 14)، هذا هو اعتراف يسير من مخزن أسرار القاعدة، وما خفي كان أعظم، قدمه الشيخ طارق الفضلي وهو من مواليد محافظة أبين في عام الاستقلال 67م، وغادر مع أسرته في نفس العام إلى السعودية والتحق بالجهاد في أفغانستان العام 87م، وعاد إلى اليمن عام 1989م، وانضم إلى المؤتمر الشعبي العام، التحق بالحراك الجنوبي في أبريل عام 2009م من أجل دور معين لم تتضح أبعاده الحقيقية بعد، وعلاقته بالقاعدة مع كثرة الأحداث التي ارتكبها من أبرزها مجزرة وادي حسان زادت النقمة عليه من قبل آل فضل، بعد أن وقعت هذه المجزرة في 29 يوليو 2011م وراح ضحيتها أكثر من 50 شهيدا وعدد أكبر من الجرحى من نفس قبيلته بواسطة قصف الطيران الحربي للنظام السابق وهجوم أنصار الشريعة على مواقع القبائل في وادي حسان عندما تطوعوا لقتال أنصار الشريعة، لهذا السبب تم حصار منزله بعد عودته من جبل المراقشة في شهر أكتوبر 2012م، ووضع قيد الإقامة الجبرية في عدن، الخطورة تكمن في إمداد وتحريك عناصر القاعدة من مراكزها الرئيسة، فالقاعدة تنظيم عابر القارات وليس للمحافظات فقط، وخطورته في الانغماس في السياسة أكثر من الوعظ الديني، وفي التعبئة الجهادية لديهم أكثر من الأعمال التعبدية، لذلك فهو لا يعيش إلا حيث توجد الاختلالات الأمنية والبيئة الساخنة، ولا يتوسع إلا بين اللهب والدخان.. استغل الجهاديون باسم الدين من قبل المستفيدين في كل مكان، وفي اليمن كذلك، لهذا سمح بتمركز هذه الجماعات في المحافظات الجنوبية لأغراض كثيرة، البعض منها ما آتت أكلها مثل حرب 94م، والأخرى أفسدت وستفسد ما كان قائماً، مثل زراعة القاعدة في الجنوب وخاصة في أبين، واللعب بهذه العناصر في أكثر من محافظة، كما استخدمت في حروب صعدة وتستخدم اليوم لبعثرة الحراك الجنوبي، ولكن الجنوب بيئة طاردة للإرهاب بشكل عام وقد نجحت الحكومة في طرد القاعدة من أبين ولم تنجح في طردها من مأرب لأنها بيئة حاضنة، ولكن الإصرار على استزراع الإرهاب في الجنوب يمكن أن يوصل الجميع إلى نهاية غير معروفة المآل. في العام 2011م سلمت القوات الحكومية المعدات العسكرية والأسلحة في محافظتي أبين وشبوة لعناصر تنظيم القاعدة (أنصار الشريعة)، فكان للجّان الشعبية دور لا ينكر، وكذا الوحدات العسكرية التي تضم أغلب أفرادها من أبناء المحافظات الجنوبية، كونهم معنيين في مجابهة هذه العناصر، بالإضافة إلى النية الصادقة لمحاربة الإرهاب من قبل القيادة السياسية والعسكرية.. هكذا فقد نجحت باجتثاثها، وهي سابقة لم تنجح في أكثر من مكان تتواجد فيه القوات الدولية مثل أفغانستان لأكثر من عقد من الزمن أو في باكستان أو في العراق أو في الصومال، لذا فالذين يراهنون على تنظيم القاعدة كورقة أخيرة بين أيديهم، أو كلعبة شطرنج من أجل تفتيت شعب الجنوب أو الشمال نفسه نزولا عند مصالحهم، عليهم أن يكفوا عن سفك الدماء، وإلا فإن الشعوب ستخرجهم من ديارهم كما أخرجت الذين من قبلهم، وسيقدمون إلى المحاكمة في أي مكان، وإن نجوا من ذلك فلن يعفو عنهم حكم التاريخ الذي لا يرحم. والله على ما نقول شهيد صالح محمد مسعد (أبو أمجد)