في كل ثورة أو حركة نضالية لا تمتلك مبررات قيامها على القيم الأخلاقية أو الدينية لا يمكن أن يكتب لها النجاح، ولا تستطيع أن تقود الجماهير إلى النهاية لبلوغ الهدف، فالثورات العظمى في العصر الحديث والتي وضعت حداً لطغيان الحكم وسيطرة الكنيسة والدين، وأقامت على ثمرة تضحياتها أنظمة دستورية ودولاً ديمقراطية وأرست مبادئ وقواعد إنسانية في مجتمعاتها، هي التي حققت منجزات عظيمة لخير الإنسان وأعطته مكانته الحقيقية في المشاركة والتفاعل في مختلف محددات الحياة، وبالتالي أطلقت إبداعاته وفجرت قدراته وطاقاته في صنع الجديد.. فالثورة الإنجليزية، وهي الثورة الأولى في العصر الحديث، هي التي وضعت النظام الدستوري الحديث وبنت أسس الدولة الحديثة، كونها انطلقت من قيم وأخلاقيات تأسست على سوسيولوجيا الفضيلة، والحس الخلقي والمشاركة الوجدانية والتعاون، وأنهت طغيان السيطرة الدينية.. وكذا الثورة الفرنسية بعدها بقرن أو أقل بعقد من الزمن، استلهمت من تراث الفكر الإنساني، وإنجازات الثورة الإنجليزية قيما جديدة، وانطلقت من ايديولوجيا العقل وحرية الفكر والإخاء والمساواة، وأفسحت المجال للعقل ليتعاظم دور الإنسان وتتفتح مواهبه. كما قامت الثورة الأمريكية قبل الثورة الفرنسية بعقد من الزمن، استلهمت الكثير من أبعاد شعر كلوردرج (الإنجليزي) وقيم الثورة الإنجليزية بالإضافة إلى أنها اعتمدت على قيم متعددة، أهمها سياسة الحرية والعدالة والديمقراطية، وهكذا فإن استلهام القيم من بلدان الغرب ليس عيبا باعتباره تراثاً إنسانياً ويحمل قيماً سامية رفيعة، فالقيم الإنسانية ثابتة وهي جزء من كرامة الإنسان وترفع من مكانته وتكرم وجوده.. هنا ثورة الشباب في اليمن قامت في البداية على قيم أخلاقية ودينية لا أحد ينكرها، لأنها تنشد الحرية والعدالة والمساواة والإخاء، والأهم أنها قيم لمقاومة الفساد ومظاهر الاختلال المجتمعي، التي يعاني منها الشعب اليمني، فهي ثورة لأنها قامت ضد الرشوة والمحسوبية، وسرقة المال العام وعدم حيادية القضاء، وتفشي مظاهر الظلم والقهر الاجتماعي والتمايز الطاغي، وتباين المواطنة بين الناس وغيرها. ابتدأت الثورة الشبابية بالحماس والأمل، محملة بقائمة طويلة من المطالب والشعارات كمتطلبات قيمية تحتاج إلى إنجاز، لكنها وصلت بعد عناء ويأس إلى طريق مسدود وربما عادت إلى نقطة البداية.. تم سركلة الثورة -أي دورانها- حول المحور ولم تحقق أهدافها، ابتدأت على إيقاع ونسق.. خطب المنابر وانتهت حيث ألقت رحلها أم قعشم.. هنا يحق لنا أن نتساءل، ما الذي حققته الثورة؟.. إنه عودة النظام السابق بصورة ووجه جديد.. مات استبشار الجماهير ووئد الأمل من الداخل والخارج.. لم ييأس الفرنسيون من الثورة بعد أن استمرت لأكثر من عقدين من الزمن ولم تحقق نجاحها إلا بعد قرن من الزمن.. لقد تحول نابليون من جنرال إلى امبراطور أراد أن يكتسح أوروبا بفعل الغرور إلى أن هزم في معركة واترلو، ثم عادت فرنسا لاستلهام قيم الثورة ولكن بعد تضحيات جسام، وكذلك الثورة الأمريكية لم تطبق قيمها ومبادئ الحرية إلا بعد التخلص من الرق والعبودية بعد الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر فعادت لاستلهام قيم الثورة ومبادئها فطبقت أفضل ديمقراطية في العصر الحديث. اليمن ليس بحاجة إلى العودة بعد عناء مضنٍ لاستلهام قيم رفعها في شعاراته، رغم أنه لم يؤسس لها كإطار فكري في الوعي الاجتماعي، كما هي الثورات الأوروبية والأمريكية، وهذا لا يمنع أن تكون التجارب العديدة للثورات في العالم، في عصر التواصل بمختلف أنواع الاتصال، مصدر إلهام واستفادة لاختصار التجربة والزمن بعد أن تأسست على خلفية تلك الثورات دول دستورية ونظم قائمة على الحرية والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والديمقراطية. في اليمن الغطاء المتوفر كبديل لفشل الثورة أصبح الحوار، لا نختلف أن الحوار هو البديل الوحيد لتجنب العنف أو لحل المشكلات، وكان المفروض أن يكون الحوار منذ البداية، بدلا من الثورة والضجيج والدماء والشهداء والجرحى، طالما لم يحدث التغيير والتجذير، ولكن الذي يخشى منه هو أن الذي احتوى الثورة لمصلحته هو نفسه الذي بيده القدرة على مصادرة نتائج الحوار بواسطة الهيمنة والتأثير على أطراف الحوار لمصلحته، لأن أرضية الحوار غير ممهدة في ظل ظروف كهذه. وبدون توفر الظروف المناسبة، وإيجاد الأسس لا يستقيم أمر الحوار لما أقيم من أجله إلا بعد استدعاء هذه الأسس، وبعد أن يقف الجميع على أرضية واحدة، لا هيمنة، ولا استئثار بغرض القوة من أطراف الهيمنة وأجنحة النفوذ والسيطرة، فلا ينجح حوار وبعض أطرافه تتكئ على القوة أو السلطة، أو السلاح أو المليشيات المسلحة، ولا ينجح حوار وبعض أطرافه تفرض السيطرة والعلاقة الأبوية مع الآخر، أو النخوة القبلية، أو فرض السلوك القبلي وتقاليده، والأهم من ذلك أن يطغى مبدأ التقاسم الذي فرضته المبادرة الخليجية على الحوار، أو اتباع طريقة الخداع أو انعدام الشفافية في هذا الحوار وكثيرة هي الأمور التي تعرقل الحوار، لأن الذات اليمنية تدعي بلغة الحوار ولا تعتقد بيقينيته كسلوك حضاري للتعامل.. يكثر التعقيد بعد أن تحول الوضع الثوري إلى أزمة، وسوف تتعقد الحلول على مختلف المجالات بسبب الفساد، ومعلوم أن أهم سبب لقيام الثورة كان الفساد بأنواعه المختلفة، والمستشري في كل مفاصل الدولة وفي داخل المجتمع، ومعروف لدينا علميا وعمليا أن الفساد وملحقاته في هذا النظام أو في غيره، لا يمكن أن يزول إلا بحرارة الثورة وتدفقها واندفاعها، ويزيد الأمر سوءاً وتعقيداً في المجتمعات المختلفة كما هو حال اليمن، ومن المستحيل أن يزول هذا الخطر بالقوة الناعمة أو ببرنامج للإصلاحات إلا بعد عقود من الزمن، وبعد تربية أجيال عدة قد تخفق أو تصيب فيما لم تتوفر حكمة أو إرادة سياسية للتغير، وما جنيناه من الثورة هو الدعوة للحوار، فهل الحوار هو البديل المناسب لتحقيق أهداف الثورة؟.. لا يستطيع أحد الإجابة على هذا السؤال إلا في حدود معنى التفاؤل، لأن ذلك سيجر المتحاورين إلى مناقشة قضية الإصلاحات التي كان يتم الحديث عنها قبل الثورة من قبل المعارضة، ولكن بعد وصول المعارضة إلى السلطة تغير هذا المطلب الإصلاحي إلى أسلوب تقليدي للنظام السابق من قبل كل جهاز السلطة من الرئيس إلى الحكومة، فالرئيس الحالي لا يمكن أن يخرج إلى أفق جديدة تسهل عليه الإبداع والتجديد ولكنه يتبع الوسائل والطرق المنجية والتقليدية التي ظل يستخدمها الرئيس السابق مع بقاء مراكز النفوذ كما هي، والحكومة لا يمكنها التغيير والتجذير في ظل ارتباطها بالنصف الآخر الذي لا يرضى لها باتباع الأفضل إن لم يكن الأسوأ حتى لا تنكشف سوءاتهم، وهكذا يبقى التغيير مرهوناً بالحوار وهو الطريقة الوحيدة للخروج من الأزمة بتغيير بعيد المدى وليس من سبيل غيره إلا إذا كانت هناك ثورة أخرى، والواقع يبدو أنه غير مؤهل لذلك. ليستمر الحوار وهناك توجه سياسي يفرض الحوار حتى بدون استكمال شروطه، والذي يفترض مشاركة كل أطياف السياسة والمجتمع، وهذه المراهنة لا تجدي لأنها تنطلق من غرور السلطة ودعم الدول الخارجية الكبرى وهراوة مجلس الأمن وأيضا من ركاكة النظرة غير الواقعية للأمور من كل النواحي، وهو ما نتوقع أن يؤجل الحوار مرات ومرات لأن أسس الحوار ومنطلقاته غير متوفرة، هذا من جهة، وهي التي تعرقل الحوار او تؤجله، ومن جهة ثانية، وهي الاهم، أن الحوار المطلوب يرتبط بعمليتين متفاوتة في الحراك الاجتماعي العام. وننوه هنا إلى أن التفاوت المقصود لا ينطلق من لغة التمييز العنصري أو الطائفي أو الايديولوجي، ولكن من حراك الواقع والخلفية التاريخية والسياسية لهذا الواقع، الأول: الحراك والثورة التي توقفت في المجتمع الشمالي عند حدود المبادرة الخليجية وآلية التنفيذ، والثاني في الحراك في المجتمع الجنوبي والذي لا زالت فيه الثورة في حالة تصعد خاصة بعد توقف الثورة ومصادرتها في المجتمع الشمالي، والمؤسف أن إخواننا فيه غير معترفين بالحراك الجنوبي باعتباره ثورة، بل ثورة سباقة والتي يحركها الشعب وليست الرموز، بعكس المحافظات الشمالية التي احتوت فيه الرموز تلك الثورة وصادرتها وعلى ضوء هذا الواقع ينظرون للحراك الجنوبي بأنه مرهون بالحتمية والنظرة المسبقة لثبات الوحدة كصنم مقدس لا يجوز المساس به. المفارقة أن حراك الشمال فرط في كل القيم التي جاءت الثورة لترسيها في الواقع الجديد المرتبط بعملية التغيير، وتذرع المواطن بالتمسك بقيمة مثالية فردية واحدة لا تصلح بدون غيرها من القيم لأنها تقوم عليها، ألا وهي الوحدة، بينما الوحدة قد أفرغت من محتواها ومن كل القيم التي تشكل هويتها، وهي التي أرادت الثورة المخفقة أن تعزز بها الوحدة، بينما أخذ على حراك المجتمع الجنوبي أنه ضد الوحدة، بينما هي قيمة جوهرية في التراث الديني والاجتماعي وحتى السياسي، لكنها في الحقيقة قيمة مفرغة المعنى لأنها تسقط وتتعالى على حقوق وقيم المجتمع ولا توازي معناها الحقيقي وأبعادها المشكلة على ضوء منظومة القيم الملازمة لها، بل أخذت كشعار لزيادة في السوء ضد مصلحة المجتمع الجنوبي وكذا الشمالي، وتبقى المشكلة أن المتباكين على الوحدة قد كرسها الانفصال باللفظ والممارسة من أول يوم للوحدة حتى انعدمت أسس بقائها في نفوس الجنوبيين ووجدانهم، ولهذا يبقى الحوار مروهنا كما نراه على الواقع بحوار الشمال مع الجنوب كطرفين، مهما حاول البعض -بواسطة المؤتمرات أو تشكيل مكونات جديدة- تمثيل السلوك الحضاري المتمثل بالحوار فالشعب يدرك كما هو العالم المعاصر أن السلوك الحضاري هو الحقوق والقيم الإنسانية في المواثيق الدولية كمبادئ للتعايش، الشعب يعتبر هؤلاء مدفوعي الأجر المسبق ولكن بانتهاء رصيدهم أمامه. والله الموفق صالح محمد مسعد (أبو أمجد)