أثبتت تجربة مايسمى بالربيع العربي خلال السنوات الماضية أن تلك الثورات التي قامت في بعض البلدان العربية كانت عبارة عن انتفاضات،أو تمردات شعبية،وذلك انطلاقا من التجارب الثورية في كثير من بلدان العالم،وأيضا من العوامل الداخلية المرتبطة بمدى نجاح الثورات بالاعتماد على وسائلها وأدواتها المحركة أو المعرقلة لها، أي التي لم تستطع أن تبلغ من خلالها الهدف، وبينت من خلال حصادها الحالي أنها أقرب إلى الانتفاضات منها إلى الثورات،وذلك وفقا للأسباب التالية: 1-أن الثورات العربية التي قامت خلال السنوات الثلاث الماضية جميعها مخترقة،حيث استطاع الإسلام السياسي أن يستأثر أو يستحوذ على نتيجة هذه الثورات العربية ومصادرة نضال التيارات العلمانية واليسارية واللبرالية واستخدم بتفكيره الجديد أساليب عدة سواء من خلال الصندوق أو من خارجه للوصول إلى السلطة بعد ركوبه شأفة الثورات،فتحولت هذه الثورات إلى صراعات داخلية أقرب إلى الفوضى الاجتماعية. 2-أن هذه الثورات تحولت إلى صراعات مناطقية ومذهبية وسياسية لم تستطع أن تتقبل الديمقراطية ولا أن تتجاوز الخلافات السياسية التي تقف خلفها في الغالب المذهبية أو الصراع الأيديولوجي، كما أنها تعطي مؤشرات إلى إعادة المجتمعات إلى مربع الديكتاتورية،وإلى استمرار الفساد العام ،وأنها سنحت بعودة النظام القديم إلى السلطة في أغلب هذه البلدان. 3-أن المجتمع عندما يفكر بثورة فهو لا يفكر بالمحافظة على الحكام السابقين،بل يختطف الدولة ويثور على الوضع القديم الذي أقلق حياته وكدر معيشته ليتحرر من الفقر والعوز والاستبداد،كما أنه يطمح لمستقبل أفضل تكون الحرية والتطور والمواطنة المتساوية عنوان المرحلة المقبلة لما بعد الثورة والتي قامت ضد الوضع القديم. لكن هذه الثورات حافظت على النظام القديم تحت ذريعة السلمية ومبررات عدم الانجرار إلى المزالق والحروب الأمر الذي مكن من عودة النظام السابق من النافذة وقبول مساوئه وجرائمه. هذه المؤشرات تظهر الثورات العربية بأنها عبارة عن انتفاضات شعبية، وهذا يتأكد من خلال طبيعة الثورات ومنهجيتها وإستراتيجيتها ووسائلها وطريقة عملها وأساليبها وطابعها العام المتمثل بالتالي: 1-أن الثورات هي عبارة عن تغيير مفاجئ أوجدته الظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردية مما يستدعي مفهوما راديكاليا وخططا تجذيرية للتغيير، في الغالب فإن الثورة يكون خصمها الرئيسي هو النظام السابق بكل عناصره ووسائله،وهذا يتطلب اقتلاعه بحرارة الثورة وعبر تدفقاتها وتموجاتها المتتالية،وهذا مالم يحدث في الثورات الربيعية. 2-إن طابع الثورات يأخذ الديمومة والاستمرارية والتخطيط الإستراتيجي والمرحلي للنضال من أجل القضاء على النظام القديم بكل أدواته ووسائله بعناصره المادية والبشرية،وإيجاد خطوات ملموسة للتغيير نحو الأفضل والذي يخلق التفافا جماهيريا واسعا معه، وهذه الثورات لم تأخذ هذا السياق من الديمومة والااستمرارية. 3-إذا لم يكن للثورة تخطيط استراتيجي في النضال،فيعني أن الثائر (نقصد هنا القادة)الذي لايمتلك الرؤية فإنه يفتقد الحكمة مما يجعله يتحول تدريجيا من الثورة إلى البلطجة والدموية،وهؤلاء هم كثر عبر التاريخ،مهما تدثروا بالبراءة الثورية.ولكن غياب الرؤية والحكمة،يجعلهم يغوصون في رمال السلطة المتحركة لينتهي بهم الحال الى الاستئثار بالسلطة ونسيان الأهداف الجمعية التي جعلتهم يتسلقون تحت شعارها..وهكذا فإن ثورة 11من فبراير عام 2011م في اليمن ليست بعيدة عنا ومآلها واضح في النتيجة الحالية،وهي التي أعادة تقاسم السلطة بين خصوم الجماهير الثائرة،الذي تحول بعضهم من خصوم الى قادة أو رموز للثورة يعيدون النظام بصورة لاتقل قباحة عن صورته الأولى. هذه السمة هي التي أتسمت بها الثورات الربيعية العربية فتحولت إلى انتفاضات شعبية،وهذا يأتي نتيجة لانحراف الثورة وانعدام الرؤية للثوار المتسلقين عليها ومصادرتها. وتلك العوامل السابقة لها علاقة بالبعد الإستراتيجي الجغرافي الإقليمي والعالمي والذي بتدخله يمثل أحد أسباب تحول الثورات العربية إلى انتفاضات أو تمردات شعبية وفقا لما يلي: 1-قيام هذه الثورات العربية في لحظة مباغتة لم تحسب لها الدول الكبرى وخاصة أمريكا الحساب المتوقع،في حين أن هناك منهجية إستراتيجية وخاصة لدى الغرب بدوله الكبرى يمكن وصفها بأنها محاولة لإعادة الهيكلة الإستراتيجية ولكن وفق معطيات وشروط اللحظة الراهنة واستحقاقاتها،وهي عملية تقليدية في الإستراتيجية الدولية. ومنها إحداث تغيير خارطة الشرق الأوسط لتستجيب لمتطلبات ودوافع وأبعاد سياسة ومصالح هذه الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا، الأمر الذي دفع بها إلى إعاقة مسار الثورات الربيعية. 2-ان خطط وتوجهات الدول الفاعلة الإقليمية والدولية لم تكن منسجمة ومتكاملة وفقا لخطط إستراتيجية كما كان في القرن الماضي مع إعادة صياغة افريقيا لجعلها جغرافيا قابلة للقسمة بعد الحرب العالمية الأولى في مؤتمر برلين.أو كما هو مع مؤتمر سان ريمو الذي أعاد تشكيل المنطقة العربية بعد سحب بساط السيطرة الدينية من تحت نفوذ الدولة العثمانية.الأمر الذي جعل الدول العربية في مواقف متعارضة ومتنافرة بعد الحرب العالمية الأولى،وذلك لكي تخدم اتفاقية سايكس بيكو بين النفوذ البريطاني والفرنسي،وجعل إسرائيل الحاجز البشري بينها بعد الحرب العالمية الثانية. أو كما حدث عام 1947م بوضع الحاجز البشري الهندي بين بنجلادش وباكستان، لجعل المواقف الإسلامية متعارضة بشكل عام.وهذا ماخلق التعارض القائم في دعم الثورات العربية بين أطراف تدعم الحركات الإسلامية مثل أمريكا وتركيا،أو تعارضها وتدعم أطرافا أخرى كما هو الحال في سوريا من قبل الموقف الروسي والصيني ومواقف غربية وإقليمية أخرى.وتترتب المواقف وفقا لما تحكم به المصالح المتباينة في الوقت الراهن للدول الكبرى أو الإقليمية والتي جرت معها المواقف المتصادمة في جغرافية الشرق الأوسط. 3-العامل المتعلق بالبعد الإستراتيجي الجغرافي للدول العربية يرجع في تقديرنا للمواقف المزدوجة للدول الكبرى العالمية والإقليمية.بحيث أنها مواقف ترتب عليها إرباك الأوضاع الداخلية للبلدان العربية نفسها،هذه المواقف المزدوجة أقيمت بناءً على المصالح التي جعلت الدول الكبرى والإقليمية تتعامل مع أوضاع المنطقة العربية بدولها المختلفة وفق إستراتيجية قادرة على استيعاب المتغيرات الجديدة عبر تكتيكات سياسية مرحلية تختلف عن السياسة القديمة. فأمريكا مثلا كانت متشبثة بإستراتيجية الهيمنة خلال القرن الماضي،لكن اليوم فإنها تميل إلى التعاطي البرجماتي مع هذه التطورات، بمعنى خلق تسوية معينة يجعلها أقل تدخلا وأكثر ربحا، فهي وغيرها من الدول تتجنب الاندفاعات الغير محسوبة وتقلل من التدخل والدفاع عن دمقرطة المنطقة،وحقوق الإنسان،وهي تميل حاليا إلى التقارب مع إيران من أجل حصد أكبر قدر من الموارد والأسواق،ومع ذلك تحتفظ الولاياتالمتحدة بعلاقاتها القوية مع السعودية ووعود بتأمين حمايتها مقابل اشتمال استثمار الموارد والهيمنة عليها وهكذا.. من كل ماسبق نلاحظ أن الثورات العربية واقعة في اشتباكات متعددة،منها الداخلية بظروفها الذاتية والموضوعية،ومنها الخارجية بتعقيداتها السياسية وتنافر المصالح للدول الخارجية تجاهها.وفي هذه العجالة لسنا ملزمين بإيجاد مخرج مثالي لأزمة السياسات الداخلية التي وصلت إليها الثورات العربية وتحولت إلى انتفاضات وتمردات شعبية، فإننا نستثني هنا من بينها ثورة فريدة ومتميزة تحمل بداخلها مقومات النجاح ومؤشرات بلوغ الهدف، إنها الثورة التي يقودها الحراك الجنوبي على مستوى حدود جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقا،والذي كان سباقا وملهما للثورات الربيعية،والتي تؤكد خطاها بأنها ثورة حقيقية تقوم على أسس متكاملة من المضامين العملية الثورية السائرة في دروب النضال الذي أثمرت فيه الثورات الناجحة في العالم من قبل.وتتمثل عوامل اختلاف الثورة الجنوبية عن ثورات الربيع العربي بالآتي: 1-أن الثورة الجنوبية لها خصوصية ثورية تولدت من المعاناة الحقيقية للواقع الاجتماعي للشعب الجنوبي بعد فشل طموح الوحدة،وأرادت بها الثورة العودة عن الخطأ المستعجل في تحقيق وحدة غير ناضجة على الواقع،وهي بذلك تمتلك الحق الطبيعي في استعادة دولة تعرضت لنقض اتفاق شروط الوحدة،بقيام الحرب الكاسحة للجنوب بعد أربع سنوات من قيام الوحدة. 2-أن الثورة الجنوبية تمتلك مقومات وأسس أصيلة لنضالها واستمرارها،وهي تسير بخط تصاعدي ومتواتر متجه إلى الأمام ويغطي المساحة الجنوبية كاملة.والثورة أصبحت ذات قاعدة شعبية كاسحة. 3-إن الثورة الجنوبية تعتبر الآن ملمحا نفسي_اجتماعي للشعب الجنوبي،ترتبط عمليا بدرء المعاناة وإزالة الغبن والظلم.إذ أنها غدت تمثل حالة وجدانية عامة في الجنوب تناهض الوضع الحالي في دولة الجمهورية اليمنية المليء بالتناقض والفساد،والقائم على سطوة القبيلة والعشيرة والمطامع الشخصية الذي كان ضحيتها الأكبر الجنوب بأرضه وشعبه. 4-أن الشعب الجنوبي بعد معاناة الوحدة وقيام الدولة اليمنية الواحدة المترهلة التي أفتقد فيها المواطن الجنوبي كل مقومات العيش الكريم جراء الوضع المتناقض مع سيكولوجيته الملتزمة والمتناغمة مع ظوابط استقرار وقوة الدولة،لهذا أصبح المواطن تواقا للعيش في ظل دولة تحمي وتحترم حقه ومكانته الاجتماعية.وخلف هذه الغاية انطلق في بعده الإستراتيجي للنضال من أجل الوصول إلى الهدف.وما يؤكد نجاح هذه الثورة أن هناك توافقا عاما لكل فئات وشرائح ومكونات الشعب الجنوبي الاجتماعية والسياسية للسير في طريق تحقيق أهداف الثورة المشتعلة في الجنوب. لهذه الأسباب وغيرها يستمر النضال ويستمر التصعيد وستواصل الهبة الشعبية سيرها إلى شكل نضالي أكبر في حالة مراوحتها دون تقدم.بعيدا عن مخرجات الحوار الذي لا يزيد الثورة إلا اشتعالا وتوقدا.لأن مخرجات الحوار أتت من خارج الإرادة الجمعية الجنوبية التي لا تعترف بأية حلول لا تلبي أهداف ومطالب الشعب الجنوبي الثائر. والله على ما نقول شهيد صالح محمد مسعد(أبوأمجد) 30/12/2013م