في 14 يوليو كنت في الجنوب الفرنسي، لم أكن أذكر مطلقاً أي معنى لذلك اليوم لدى الفرنسيين. ومع أننا –أنا والفرنسيين أولئك- لم نكن لا في قرن الثورة ولا في عاصمة الدولة (باريس)، فقد ذكرني شباب في مقتبل أعمارهم بأن اليوم هو يوم أعظم ثورات الدنيا بالنسبة لهم وللكثيرين.. إنه يوم الثورة الفرنسية. شباب (من الإناث والذكور) من الصباح في حلقات تمثل المدارس والمؤسسات غير الحكومية والأندية الاجتماعية والشركات التجارية يحتفلون، فيما كان الموظفون الرسميون مجرد (شهود) سواء في شرفات المنازل نهاراً أو في ساحات الاحتفالات ليلاً. هذا نادٍ وهذه مدرسة خاصة وتلك عامة وذلك مصنع وتلك صحيفة وذلك تلفزيون.. يعبرون بطرق مختلفة عن "اليوم الوطني" لدولتهم، ما يجعله يوما وطنيا كامل الاستحقاق. سلوك بهي مبهر، يجعل للثورة معناها الاجتماعي والإنساني الكامل المحمي بتداوله عبر الأجيال يدا بيد، بدلا من تسليمه للمؤسسة الرسمية التي تحول الثورة إلى مجرد حفل رسمي لا يحضره إلا من ذكره القصر.. ولا يذكر القيصر من لم يكن في نخبة ما أو صاحب مستوى اجتماعي أو سياسي. وليس هذا أمراً وسلوكاً يستحق أن نسمي ما أوصل إليه، ثورةً. وبعد تأمل لم ينته حتى توقفت الألعاب النارية عن تزيين سماء تلك البلاد منتصف الليل، أدركت أن الأمر تعبير عن الثورة كشأن شخصي. سلوك يقول لك إن الثورة غيرت من حياة هذه الفتاة، وذلك الشاب، عبر التغيير في سلوك الأسر، في قوانين المدارس والتعليم، لدى أرباب التجارة، وفي قواعد التسويق، وفي سلوك قادة المعسكرات ومسؤولي مكاتب الأمن وأفراد الشرطة، ومؤسسات الخدمات العامة والخاصة. ثورة أحدثت تغييرا مباشرا في وعي المجتمع وآليات اتخاذ القرار فيه واحترام الأولويات، والانحياز للأغلبية والوقوف مع الإنسان أولا والقدرة ثانيا وبالتأكيد لا يمكن القول إنها تلغي الترتبيات بعد ذلك، فهذا أمر مستحيل. ثورة ترى أثرها في تعامل الرجال مع النساء، والآباء –خاصة الرجال- مع أطفالهم، ثورة لها علاقة بألوان وملابس المراهقين، وحقوق وحريات الراشدين. ثورة تسير معك في الشارع العام، خطوة بخطوة، نظرة بنظرة.ثورة غيرت في قواعد الحياة لأن ماقبلها كبلها ووقف ضدها. فألهبت الخيالات الفردية للتغيير، كل في مجاله من مصمم الأزياء وحتى المحاضر في معمل كلية الطب او مدرس العلوم في الأعدادية. سبتمبر اليمن لست في معرض التقليل من عظمة يمنيين دفعوا حياتهم ثمنا في مواجهة نظام عنصري طاغوتي، لكني في معرض التذكير بثورتنا ونحن في شهرها الذي لا يحتفل به إلا الحكام. وبدون تأتأة، أعتقد السبب أن الثورة اليمنية صودرت من قبل الصراع السياسي، فأصبحت شمالا أقرب للانقلاب، وجنوبا أقرب للتعبير الشوفيني، رغم أنهما تمكنتا من استقطاب جهد ملايين اليمنيين من القرى قبل المدن، وأحدثتا نهضة في الوعي والشعور الوطني ليس له مثيل حتى لو ذكرنا يوم ال22 من مايو 1990م، وكانتا مقدمة لتغيير جذري يمكن عبره أن نرى ذات المشاهد الفرنسية في الشارع اليمني. لقد بذل الشهداء والمناضلون، ما لا يجوز إغفاله، ويتوجب الوقوف إجلالا واحتراما له، لكنهم بعد النجاح العسكري وكسر الحلقة الأكبر –الوجود الأجنبي جنوبا، والتخلف الشامل شمالا، لم ينجحوا في حماية أهدافهم من وعيهم المنتمي أصلا لذات الفترة التي نشدوا تغييرها من أجل الناس ومصالحهم. وصبت الصراعات السياسية لصالح وعي ما قبل الثورة. كما أن النجاحات السياسية المتمثلة في تعدد سياسي وانتخابات وحزبية، لم تترافق مع معطيات اجتماعية حينها، أما اليوم فلم يعد لها وجود (أتحدث عن الشارع وليس عن الخطط والخطابات). ومع استثناءات قليلة، فإن دولة ما بعد الثورة لم تحافظ على التغيير الذي كان بدأ يتشكل في الشارع العام، في مقر الوظيفة العامة، في المنازل، والشركات. وحتى لا نتعدى ظلما، فلابد من الإقرار بالفارق الكبير بين دولة ثورة الجنوب تجاه المرأة والمساواة ومعالجة الاختلالات التراتبية، مقابل نزوع دولة ثورة الشمال للاهتمام بالتنمية الاقتصادية والإدارية. (وملاحظة أن ارتفاع مستوى العنف لدى الأولى قابله بقاء مرافق القمع الإمامي فاعلة من السجون وحتى قصر البشائر الذي لايزال رمزا للبحث عن الأمن بقوة الأجهزة وليس بثقافة الحق والقانون). كما لابد من منح المجتمع أفضلية تجاه المشروع القيمي (الحريات والحقوق والتعدد وغيرها)، والسلطة تجاه التحديات التقنية كالطرقات، والهياكل، وكل ما يعد وسيلة للتحديث من اتصالات ومواصلات وغيرها. غير أن الدولة اليمنية ونحن نتحدث عن علاقة الثورة بالشارع العام تعاني من تشوش كبير بسبب فقدان اليمن مشروعا موحدا يمكنه حشد طاقات اليمنيين، كشرط ضروري للحديث عن دولة للثورة الوحدة. إن أطفال اليمن وربات البيوت فيه –على سبيل المثال- وهم عدد مؤثر في تقدير حالة اليمن، لا يمكن القول إنهم على علاقة بهذه الثنائية (الثورة – الوحدة). فلا تزال المرأة اليمنية تعيش وسط ذات الوعي الذي عاشته ربًتها قبل الثورة- الوحدة، إن لم يكن للبعض أسوأ .(أتحدث عن نساء الجنوب في دولة الوحدة). لاتزال النظرة العامة لدورها سياسيا او اجتماعيا هي ذات النظرة لتلك، مجرد دور تكميلي للرجل. فالثورة لم تمنح النساء الأمان الذي يحتجنًه، إن في الشارع العام أو حتى الوظيفة والثقافة العامة ليشعرن بأن ثمة ثورة قامت بتوجب الأحتفال بها. وبدون جحود ماتحقق تعليميا، فإن الشباب بالمعنى الاجتماعي لم ينلهم نصيب إيجابي. وباستثناء فرص أولاد الكبار فإن مدارسنا مجرد أسوار يجلس فيها كل عشرات أمام واحد، تحكمهم ذات الثقافة النظرية التي حكمت طلاب دار الأيتام شمالا أما جنوبا فقد عجزنا عن تكرار ظروف تأهيل جيل الدولة الذي تخرج من بلقيس وبازرعة وغيرهما. وباستثناء جهود القطاع الخاص التحديثية بحثا عن الرزق التي تجلب لنا آخر إنتاجان الدنيا، فإن تعاملنا كيمنيين مع احتياجاتنا المباشرة من مسكن ومواصلات وصحة، لا تزال خيارات خاضعة للتجربة الشخصية المباشرة التي لا تتطور إلا وقد فات أوانها. ولا يمكن هنا بحال من الأحوال الحديث عن معنى الثورة. القرار في رئاسة الجمهورية، الحكومة، الوزارات، الأحزاب، وصولا لعدد من مؤسسات القطاع الخاص، هو أيضا محمي من تأثير معنى ثورة، سواء من حيث المؤسسية أو من حيث المعيارية، فلازلنا نسير التزاما بمنهج الإمامة التي كان همها الحفاظ على اليمن "كما هو" بحجة حماية دين الشعب!! ولم تتمكن الثورتان من نزع العصبية الحزبية جنوبا، والقبلية شمالا عن أدورات اتخاذ القرار. ولاتزال قضايا، كتأثير التقنية والاتصالات والمباني العامة والاسوار والحدائق، خارج منطق القرار الباحث عن التغيير في اليمن. ذات الأمر تجاه حوادث الطرق وأنواع السيارات التي يميل لها اليمنيون، وهم قد يحتشدون وراء معرض سيارات لمجرد رخص قيمة معروضاته دون التفكير في معنى الرخص. يمكن ملاحظة انتشار البضاعة المقلدة في السوق. وأن البضاعة الصينية التي تصل اليمن ليست هي التي تذهب للسوق السعودي. والأمر ليس مجرد تفاوت في القدرة الشرائية، بل تخلف ثقافي واجتماعي لا يمكن القول إنهما نتاج ثورة. المحصلة أن لا فتاة يمنية ولا مواطنا يمكنه اليوم أن يحتفل بمسمى الثورة، بل ها نحن نرى تعابير تنتمي لذات الوعي العنيف في الفعل السياسي (سواء الحوثيون في صعدة، أو الشطريون في الجنوب، مقابل تراجع دور الثقافة والفنون وتفتت أدوار شخصياتها، وهي تعابير تؤكد فشل الثورة في إحداث الإنتقالة الاجتماعية والسياسية والإدارية في اليمن الحديث. وقبل تبادل الاتهامات بين السلطة والمجتمع المعارض عن السبب فإنني أعتقد أن الخلل أكبر من ذلك، إنه يرتبط بفقدان دولة الثورة – التي صارت اليوم تسمى دولة الوحدة- لمشروع الثورة الحقيقية المشروع الذي يعلي من قيمة البحث عن التغيير نحو الأفضل.. التغيير الذي يستحيل أن يبقى معه الحال معقدا لهذه الدرجة التي نمر بها رغم الثورة –الوحدة. أزمة التدين على ذكر دين دولة الإمامة، وطالما نحن في رمضان، ومع أن هذا مرتبط بالعالمين العربي والإسلامي، فإن الحديث عن ثورة ضد حكم كان يستخدم الدين لتعميق التخلف لن يقوى على الصمود، فلازالت قواعد التدين كما كانت،باستثناء ما أحدثته مدرسة الإسلام السياسي بإيجابياتها الكثيرة وسلبياتها كذلك. ويكفي ملاحظة مأزق الخطاب الديني تجاه شهر رمضان الذي يقول الله أن صيامه له وهو يجزي به. لقد أصبح الشهر مجرد أيام تصام تبعا لإعلان القصر الجمهوري دخول هلال الشهر.( رفضت وزارة الإعلام الإعلان عن رؤية الهلال دون أخذ إذن من القصر!!). منذ ساعات الصباح الرمضاني الأولى يرقد اليمن عميقا وحتى وقت متأخر من النهار، استعدادا للسهر غير المجدي، وتقل الإنتاجية الفردية، ومن ثم الجماعية، بل تنهار، ويزداد التهاوش نهارا.. ومن السهل أن يبرر لك هذا أو ذاك خطأه بأنه "صائم"، وكأن صيامه يعنيك أنت أو هو بسببك. أو أن رمضان شرع لتصبر أنت عليه لا ليصبر هو على جوعه الذي يستهدف معالجة إختلالات صحية في الجسد كما يقول الأطباء. مع عدم جواز التعميم، فإن رمضاننا يفقد أهم مميزاته، كدعوة للتغيير.. والسبب أن الخطاب الديني يواصل عجزه منذ ما قبل الثورة عن استقطاب المجتمع للتغيير. حيث يعاد فيه إنتاج ذات الجمل وحتى بذات الصياغة والصراخ والحركات. رغم التغير التام في مشكلات واحتياجات الناس. لم يعد يسبب هذا الشهر تغيرا إيجابيا ملحوظا في التعامل مع وبين اليمنيين. وما يقال أنه إرتفاع لروحانية الناس يصطدم بأن هذه الروحانية مشروطة بعدم الخروج من المساجد، وإلا فإن رمضان يتحول فيه الزمن إلى مناسبة للتشاحن والتنابز والحشوش والمغالاة في الأسعار والتبذير في الإنفاق. دعوة ختاما.. ونحن في زمن التقى فيه سبتمبر برمضان، بحاجة للانتصار للثورة – للتغيير. والبداية من إعادة البصر ولو كرة واحدة، لقراءة واقعنا.. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. *رئيس تحرير مجلة ابواب