تواجه الدول العربية بمجملها إشكالية جوهرية تتعلق بتغوّل المركزية التي حولت أغلب هذه الدول إلى اتوقراطيات غير رشيدة، فالمعروف تاريخياً أن بعض الاتوقراطيات السياسية اتسمت بقدر كبير من الرشد والنجاح، غير أننا نحن العرب بعيدون تماماً عن تلك الحاكميات الأوربية التاريخية التي مازجت بين المركزية والحكمة التاريخية، وبقدر كبير من التطلع إلى البناء والتعمير، بل تبنّي أنساق ثقافية وإبداعية أسهمت في تطوير مجتمعات ما قبل الديمقراطية الأوروبية. تعاني الدول العربي من المركزية المتجهمة، وتتموضع اليمن في أساس ومفاعيل تلك المركزية الرديئة، الأمر الذي أدركته القيادة السياسية وحاولت ومازالت تحاول جاهدة الخروج من أنفاقه المظلمة. قبل حين تم تسطير قانون السلطة المحلية، غير انه لم يُفعّل كحال جُملة من القوانين الايجابية، ولكن المُغيّبة عملياً، وخلال السنوات القليلة الماضية تم الأخذ بفكرة اللامركزية المالية والإدارية، غير أن سدنة النظام التليد وثقافته المركزية الصارمة لم يستوعبوا ضرورة الانتقال، وأهمية التعاطي مع معطيات الحياة بروحية عصرية تسمح بتعظيم الأفضليات، وصيانة المصالح العامة لجموع الناس، والنماء الأفقي، وإيجاد بيئة تنمية مُستدامة. والآن تتم الدعوة إلى حكم محلي واسع الصلاحيات، لكن الزمن يتآكل بقدر المصدّات العاتية التي يضعها أنصار القديم ممن لا يريدون الخروج من نفق التنافي العدمي، والاحتقانات الدائمة، وصولاً إلى إهدار الفرص المتاحة. أعتقد جازماً أن تطبيق مرئيات البرنامج الانتخابي للرئيس، والشروع في حلحلة المركزية المالية والإدارية على قاعدة الشفافية القاضية بان تكون الذمة المالية والإدارية نسقاً ضابطاً للوظيفة العامة، وليست حكراً على حفنة القياديين المُعذبين والمجلودين بالصغائر. اللامركزية تقتضي أصلاحاً سياسياً وإدارياً ومالياً وقانونياً شاملاً مداها إعادة المأسسة وتعميم "الدولتية" بوصفها المرجع الأول والأخير للحياة وأنماط تطورها، وذلك هو الطريق الأسلم لمُناجزة كل الخارجين عن النظام والقانون، وفي مُقدمتهم حملة نياشين الدولة وشعاراتها ممن يُخاتلون باسم الدولة والنظام. أعتقد جازماً أن الشروع في هذه المسائل من شأنها امتصاص الاحتقانات، ووضع الجميع أمام الاستحقاق الأنبل والأشرف، بل السير على درب دولة مدنية حديثة، لا مركزية، اتحادية، لا تخلط بين المعنى والوسيلة، فالدولة الموحدة هي الدولة القادرة على استيعاب الأنساق المتنوعة، والنظر إلى التنمية الأفقية على قاعدة المواطنة الناجزة والسيادة المؤكدة. جميعنا نتساوى في حظوظ الوطنية والعطاء والشرف، وكلنا نتمرّغ .. إذا شئنا.. في أوحال الفساد والتردّي الأخلاقي، غير أن هذه وتلك لا تمنع من القول بأن الجميع أبناء هذا الوطن، لهم أن يتمتّعوا بمعنى الانتماء، وان ينالوا جزاء أفعالهم المخالفة للقانون أينما كانوا وكيفما كانوا. اليمن الجديد هو الوطن المتنوّع الخلاق الاتحادي، وبهذه المناسبة لا فرمان يحدد ماهية الصيغة الاتحادية، بل أن المكان والزمان والقابليات هي التي تحدد النموذج الأفضل. لكن مما لا جدال فيه إن الوقت يجري بقوة دفع ذاتية مُتصاعدة، وإنه آن الأوان للخروج من شرنقة الاستيهامات إلى فضاء الرحابة فعلاً وقولاً.. آن الأوان للقبض على جمرة الحقيقة مهما كانت حارقة. *(السياسية)