القوى الإقليمية والدولية, التي تسعى إلى تقسيم البلدان العربية إلى دويلات طائفية وقومية وعرقية, كما هو الحال في العراق والسودان أيضا منذ سنوات عدة ومنذ أشهر عدة بالذات.والمراقب يفحص ما يجري في اليمن بنظرة متبصرة واعية. ويحاول استجلاء المصير المقبل لهذا البلد العربي الشقيق,وما سيحصل لشعبه الأصيل, الذي يرتبط برباط مقدس بالعروبة والإسلام, ورغم تركيبته القبلية الخاصة. ما يجري في اليمن يثير الخوف على مصر هذا البلد العربي الذي حقق وحدة الشطرين منذ عقدين من الزمن. وصارت وحدته في ميزان المساومة, وبين التمرد على السلطة المركزية ومن دعوات الانفصال, سواء في الشمال أو في الجنوب. لماذا حدث في اليمن...? وهل طبيعة الشعب اليمني هي الثورة الدائمة أو التمرد. وعدم قبول الأمر الواقع...? أم ان الحكم في اليمن لم يحقق طموحات هذا الشعب? الذي لا نشك لحظة في ولائه للإسلام والعروبة. من المعروف تاريخيا أن الشعب والقبائل الغربية في اليمن. لم ترضخ للأمر الواقع بعد انهيار سد مأرب,بل قابلت التحدي بتحد آخر. وهو الهجرة إلى حيث أرض الله الواسعة. هاجرت القبائل العربية اليمنية إلى الشمال وسكنت الجزيرة العربية وبلاد الشام. وعمرتها وأقامت فيها الدول. وما بقي في اليمن من القبائل قبلت تحدي الطبيعية. وعاشت في تلك الأرض تحت مؤثرات عقيدية مختلفة إلى إن دخلت الإسلام. ورغم دخول القبائل الإسلام. إلا أنها لم تتخل عن لانتماء القبلي حتى يومنا هذا. ويمكن القول ان القبائل اليمنية تميزت بأنها حمت نفسها بالسلاح. أي ان القبائل في اليمن تحمل سلاحا منذ زمن بعيد. وعندما نقول أنها تحمل السلاح. لا نعني المسدسات والبنادق اليدوية. بل أنها تملك من السلاح ما لدى الجيوش النظامية البدائية, أي أنها تملك المدافع الرشاشة الاتوماتيكية ومدافع الهاون (80 , 120 , 60 ملم). والاربيجيه (R.B.G) , وهو السلاح الخاص بمقاومة الآليات, إضافة إلى القنابل اليدوية (الرمانات) اليدوية. وعلى هذا الأساس فإن أفراد القبائل اليمنية مدربون على السلاح, وخاصة الذي يستخدم في حرب العصابات. ومن هذه الخلفية. فان الشباب اليمنيين كانوا من أوائل الشباب العرب الذين تطوعوا للجهاد في أفغانستان ضد القوات السو ييتية, كما أصبح اليمنيون يشكلون النواة المهمة في تنظيم القاعدة. وعندما خرج السو ييت من أفغانستان, عاد عدد كبير من اليمنيين إلى بلدهم, ومنهم من عاد لينخرط في الحياة المدنية في بلده, ومنهم من واصل العمل الجهادي وأسس نواة لتنظيم القاعدة في اليمن. وعليه فان للقاعدة (خميرة) أو أرضية خصبة في اليمن.فلا نستغرب هذا التعاطف العفوي من قبل اليمنيين مع تنظيم القاعدة. والأمر الثاني: إن الأوضاع الاجتماعية والتمسك بالموروث العقائدي التي نمت في اليمن شكلت قاعدة لنمو التيارات الدينية التي تؤمن بإقامة حكم الإمامة الذي انتهى منذ عدة عقود, ويرفض تيار الحوثيين حكم الجمهورية والملكية والسلطانية وعليه فهو ضد نظام الحكم في اليمن. ويطمح إلى إقامة نظام حكم إمامي يعيد اليمن إلى سابق عهده من الانصياع الأعمى لحكم الإمام. وهذا التيار الذي يملك قاعدة لا يستهان بها في محافظة صعدة بالذات, استفاد من تجربة أفغانستان, وبالذات الشباب الذين حاربوا ضد السو ييت في أفغانستان كما انه استفاد من دعم القوى الإقليمية الطامحة في إيجاد موطئ قدم لها في جنوب الجزيرة العربية, وبالذات إيران التي ترنو إلى دور إقليمي فاعل يزاحم القوى الدولية في المنطقة. ومن الملاحظ ان اليمن كانت على الدوام محط اهتمام القوى الدولية الكبرى, ابتداء من بريطانيا العظمى, حيث حرصت على الاحتفاظ بقاعدتها في عدن, لضمان آمن للملاحة الدولية من أوروبا إلى الهند. حيث شكلت شركة الهند البريطانية القاعدة الاقتصادية والسياسية للإمبراطورية البريطانية, وبعد زوال هيمنة هذه الإمبراطورية,تولت الولايات المتحدة هذه المهمة, وحرصت الإدارات الأمريكية على توثيق الصلة بنظام الحكم في اليمن. وزاد التعاون الأمني بين الاستخبارات الأمريكية وبين السلطات اليمنية بعد ضرب المدمرة (كول) قبالة سواحل عدن, وبعد تزايد نشاط القراصنة الصوماليين في بحر العرب ومضيق باب المندب. وتوثق التعاون الأمني الاستخباري والتدريبي بعد بروز دور القاعدة في اليمن. إن لإيران اطماعا في المنطقة سواء في العراق, أو في الخليج العربي أو في بحر العرب, ولا تتورع ان تقدم الدعم للقوى الموالية لها في البلدان العربية, مقابل ان يكون لها موطئ قدم في هذه المناطق الإستراتيجية, لكي تحاور الآخرين وتقايضهم من اجل تحقيق مصالحها. ولذلك فإيران تدعم الحوثيين في اليمن على أمل ان ينجح الحوثيون في تأسيس إمارة إسلامية موالية للنظام الإيراني على حدود المملكة العربية السعودية. كما إن إيران تدعم الحركات الإسلامية في الصومال على أمل إقامة دولة تتبع النظام الإيراني, وبذلك تتمكن إيران من التحكم في الممرات المائية على البحر الأحمر وبحر العرب ومضيق هرمز,وبالتالي تصبح شريكا مهما في إدارة الإقليم إلى جانب القوى الدولية. والأمر الثالث: هو إن النظام اليمني حقق وحدة الشطرين الشمالي والجنوبي. وتمكن من القضاء على التمرد الجنوبي عام 1994م, ولكن النظام الذي يعاني من تركة كبيرة, لم يتمكن من تحقيق الامن الاجتماعي لجميع مواطني اليمن بشطريه, إذ مازال أهل الجنوب يشعرون بالتهميش والإهمال, فلم تتحسن أحوالهم الاقتصادية, ولم يشاركوا في السلطة بما يستحقون, ومثل هذا الشعور دفع قوى الانفصال إلى استثمار هذه الأوضاع, لتحريض الفقراء والمهمشين للتمرد على نظام الحكم في صنعاء. وظهر تيار ما يسمى بالحراك الجنوبي, الذي يدعو إلى الانفصال مجددا, ومثل هذا العمل يلقى الدعم من القوى الإقليمية والدولية, التي تسعى إلى تقسيم البلدان العربية إلى دويلات طائفية وقومية وعرقية, كما هو الحال في العراق والسودان أيضا. وبات من المسلم ان أعداء لأمة العربية ينطلقون من إثارة العادات والمفاهيم الاجتماعية والدينية والمذهبية والطائفية المختلفة, كما يعتمدون إلى إثارة الغرائز بما يحفز الناس الأميين أو الذين يتبعون التصنيفات الآنف ذكرها للقيام بفعل مضاد للنظم الحاكمة. وتتلون أساليبهم بالغش والدجل والشعوذة والكذب وحسب مقتضيات الحرب النفسية وأهدافها. ولمواجهة مثل هذا الهجوم المضاد من القوى الطامعة في بلداننا وخيراتها, لا بد من الالتصاق الصميم بالجماهير, وكشف أساليب الأعداء, وتحديد المعلومات والحقائق ووضعها امامها, وفضح اغراضها بأساليب مباشرة وغير مباشرة. ومن المعلوم إن قوى الردة والانفصال تعرف انه إذا كان بإمكانها إن تخدع القلة وان تستخدمها, فمن غير الممكن إن تخدع الكثرة وان تستخدمها. وعلى هذا الأساس تفتش قوى الردة عن الطرق والأغطية الفنية التي تتمكن بها ان تضعف نظم الحكم القائمة وان تخلخل تماسكها, ومن ثم تنقض عليها وتسقطها. ومن هذه الطرق والأغطية الفنية كسب البعض من أركان نظام الحكم سواء المدنيين أو العسكريين, بالإقناع تارة, استناد إلى معطيات الواقع, أو بإتباع أسلوب الإغراء المادي, ولا سيما في حالة استشراء الأزمات لاقتصادية كارتفاع الأسعار وكثرة البطالة وزيادة عدد الفقراء. أو إتباع أسلوب الترهيب بالقتل أو الخطف إذا امتنع عن مؤازرتهم وتأييدهم, كما حدث في المناطق الغربية من العراق, عندما عمد زعماء " دولة العراق الإسلامية " المزعومة,ترهيب رجال الدين وزعماء العشائر وقتل بعض من رفض إعلان بيعته لتلك الدولة المزعومة. ومن الواضح إن اصطفاف الفئات والتيارات السياسية والدينية مع بعضها لا يكون متجانسا في تكوينه, ولا بدائيا ولا موضوعيا, بل هو اصطفاف تحكمه الفلسفة البرغماتية الآنية. فالقوى اليمنية المضادة والمتمردة لا يجعلها جامع مبدئي بل يجعلها جامع مصلحي, هو مقاومة النظام في صنعاء والتمرد عليه وإسقاطه إن أمكن. وإذا تحقق مثل هذا الهدف المصلحي, فان هذه القوى سوف تختلف مجددا وقد تحترب وتقتتل, وتدخل البلاد في دوامة من الفوضى مجددا. إن القوى اليمنية التي تصطف وتتخندق ضد النظام اليمني, لها استقطابات غير موضوعية وغير مبدئية, بل هي مراكز طائفية وقبلية وسلفية, ومصالح متعددة كل هدفها الوصول إلى السلطة. امام هذا الواقع اليمني,يدعو البعض إلى استنفار إقليمي عربي لنصرة اليمن, وتلك هي دعوة ملغومة. قد توقع اليمن في فوضى عارمة, يجد فيها المعارضون فرصة للقتال بدعوى مواجهة " القوى الغازية, أو التي تتدخل في الشؤون الداخلية لليمن". إن مساعدة النظام في اليمن, ليست مساعدة أمنية بالمعنى العسكري, كالذي حدث عام 1961 عندما أرسل المرحوم جمال عبد الناصر قوات مصرية لمساعدة الثورة الوليدة على النظام الأمامي الرجعي. بل إذا عزمت الدول العربية مساعدة اليمن فتكون مساعدة سياسية وفنية واقتصادية, بهدف تحقيق التنمية والعدالة في اليمن, مقابل ان يلتزم النظام بمبادئ العدالة والمساواة وتطبيقها على كل أبناء اليمن من دون محاباة أو انحياز. ولا بد أن تكون التجربة في اليمن وفي السودان وقبلها في العراق, محفزا للأنظمة العربية كلها, لا ان تحرص على تماسك المكونات السياسية في البلدان العربية, وان تسد النوافذ التي تدخل منها قوى الردة والظلام, وتحصن السياج حتى لا تتسلل إليها القوى المعادية والطامعة في خيرات البلاد.0 العرب اليوم