منذ تأسس مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981 كان انضمام اليمن إليه مطلبا رسميا وشعبيا يمنيا, لكن المجلس ما زال حتى اليوم يتلكأ في الاستجابة الجادة, ويتهرب من هذا الاستحقاق الذي تمليه المصالح الحيوية لأعضائه المنبثقة عن املاءات الجغرافيا السياسية, ناهيك عن املاءات المصلحة العربية العليا, ويداري هذا الاستحقاق إما بخطاب تضامني مع اليمن ما زالت الترجمة العملية له قاصرة عن تلبية الحد الأدنى من متطلباته أو بخطوات رمزية هي أقرب إلى رفع العتب السياسي منها إلى أي استجابة مسؤولة لهذا الاستحقاق المتأخر مثل ضم اليمن إلى بعض لجان المجلس غير الأساسية كعضو مراقب جزئيا. وإذا كانت الأسباب الذاتية التي ما زالت تحول دون تطوير المجلس إلى كتلة عربية اقتصادية وسياسية ودفاعية وأمنية أكثر تأهيلا للدفاع الذاتي عن نفسها من دون أي مظلة دفاعية أجنبية, بسرعة تتناسب طرديا في الأقل مع تسارع المخاطر الخارجية التي تهدد المجلس مجتمعا ومنفردا, هي الأسباب الحقيقية التي تفسر استمرار التلكؤ في الاستجابة للمطلب اليمني, فإن المجلس في تسويغ تلكؤه يميل إلى عدم تسليط الأضواء على هذه الأسباب الخاصة به وإلى التركيز أكثر على الأسباب اليمنية الذاتية التي تقف عقبات أمام انضمام اليمن إليه. ويجري التعتيم اليوم كذلك على حقيقة ان سياسة التلكؤ هذه كانت من الأسباب الرئيسية التي أوصلت اليمن إلى وضعه الراهن, وهي سياسة يمكن تلخيصها بتهرب المجلس من مسؤولياته التي يقتضيها حق الجار الفقير على جاره الأغنى إن لم يقتضها التضامن العربي, وبالتالي كانت هذه السياسة من العوامل الرئيسية التي ساهمت في الأسباب اليمنية الذاتية التي يحلو للمجلس سوقها كأسباب رئيسية لا تؤهل اليمن للانضمام إليه, ويكفي هنا الإشارة إلى أن جزءا فقط من خسائر دول المجلس في استثماراتها الدولية نتيجة للأزمة المالية العالمية كان كافيا لو استثمر في اليمن كي لا تكون هذه الأسباب اليمنية الذاتية موجودة أصلا. لذلك لم يكن أمرا غير متوقع أن يتحول الوضع في اليمن إلى تهديد أمني للمجلس, حد أن تكون قمة مجلس التعاون الخليجي في الكويت عام 2009 أول قمة خليجية تنعقد منذ عام 1990 بينما دولة عضو في المجلس, هي المملكة العربية السعودية, تخوض حربا سببها الوضع في اليمن, ليتحول اليمن بعد ذلك إلى بند "أمني" على جدول أعمال قمم المجلس اللاحقة, وهذا تطور كان يمكن تلافيه لو وضعت قمم المجلس السابقة اليمن بندا "اقتصاديا" على جداول أعمالها. ولذلك أيضا لم يكن أمرا غير متوقع أن يتحول اليمن في الاستراتيجية الأمريكية الإقليمية إلى ساحة "حرب رابعة" ضد "الإرهاب" إضافة إلى العراق وأفغانستان وباكستان تستحق "مضاعفة المساعدات الأمنية الأمريكية" لليمن من أجل "العمليات الوقائية ضد التمرد" خلال عام 2011 المقبل, كما قال قائد القيادة الوسطى (المركزية) الأمريكية "سنتكوم" الجنرال ديفيد بترايوس للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ بالكونغرس في السابع عشر من آذار / مارس الماضي. إن إعلان بترايوس هذا يسلط الضوء كذلك على النفاق الإنساني للمجتمع الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة تجاه الأوضاع الاقتصادية والإنسانية المتدهورة في اليمن, حد أن يحذر تقرير قدمته إلى الكونغرس في 22/1/2009 خدمات أبحاث الكونغرس من أن اليمن مهدد بأن يتحول إلى "دولة فاشلة", بينما لم تتجاوز حصته من المساعدات الخارجية الأمريكية في المتوسط مبلغا يتراوح بين (20) و (25) مليون دولار سنويا خلال السنوات الخمس السابقة على التقرير, وبينما بترايوس يعد فقط بمضاعفة المساعدات "الأمنية", وبينما تحث واشنطن مجلس التعاون الخليجي للتعويض عن الإهمال الاقتصادي الأمريكي لليمن كي يتحول هذا التعويض الخليجي إلى تمويل "عربي" غير مباشر لساحة الحرب الأمريكية "الرابعة" التي فتحتها واشنطن ضد "الإرهاب". ومن المؤكد أن إعلان بترايوس هو خبر ينذر بتفاقم التهديد الأمني للمجلس في الأجل القريب ولا يبشر بأي تحسن في الأمن الإقليمي إذا كان الأداء الأمريكي في العراق وأفغانستان وباكستان هو المقياس للحكم على إعلانه. ولا بد أن صنعاء قد توقفت عند المفارقة الكامنة في مسارعة دول مجلس التعاون الخليجي إلى التجاوب مع دعوتها إلى مؤتمر لندن الدولي في كانون الثاني / يناير الماضي لدعم اليمن في حربه على "الإرهاب" ثم مسارعتها إلى التجاوب مع دعوة مؤتمر لندن لها لاستضافة مؤتمر البلدان المانحة لليمن في الرياض بعد شهر بينما كان الاستحقاق الخليجي المتأخر لليمن يقتضي أن تكون هي "المبادرة" إلى ذلك أصلا, ولا يسع المراقب العربي إلا أن يتوقف مع صنعاء عند هذه المفارقة ليتساءل لماذا يحتاج مجلس التعاون إلى غطاء دولي طالما أنه سوف يتحمل أكثر من خمسين في المئة من تعهدات المانحين لليمن, وما هي الجدوى السياسية في أن يسجل على نفسه أنه يفعل ذلك استجابة لدعوة دولية, يفسرها كثيرون بأنها استجابة لضغوط دولية, بدل أن يكون المجلس هو المبادر إلى دعوة كهذه وهو صاحبها, وفي وقت أسبق كثيرا, كي لا تتحول أزمة اليمن الاقتصادية إلى أزمة أمنية إقليمية? وهذه المفارقة تعزز استنتاج تقرير خدمات أبحاث الكونغرس المشار إليه بأن "أعضاء المجلس عارضوا تقليديا ضم دول إضافية إليه", وأن حصول اليمن على "عضوية كاملة غير مرجح", وأن "معوقات العضوية الكاملة في المجلس كأداء", لكن مصلحة المجلس تقتضي منع تحول اليمن إلى "دولة فاشلة خشية أن يمتد عدم الاستقرار فيه إلى بلدان الخليج المجاورة" كما أن "اليمن بحاجة إلى تصدير آلاف من عماله سنويا" إلى دول المجلس لأن تحويلاتهم المالية تمثل مصدرا رئيسيا للقطع الأجنبي بعد صادرات النفط, الذي يكاد ينضب. وهذان العاملان في الأمد القريب كافيان كي تتجاوز دول المجلس مضاعفات حرب الكويت التي أعادت مليون عامل يمني فيها إلى بلادهم, بعد أن تجاوز اليمن حساسيات "الحب من جانب واحد" للمجلس, ومضاعفات خذلان المجلس لليمن في ذروة حربه الوطنية للحفاظ على وحدته عندما كاد وزراء خارجية دوله الست في أبها عام 1994 يعترفون بشطر اليمن إلى دولتين ثانية, وتجعله حاليا يتغاضى عن استضافة قادة يدعون علنا للانفصال في اليمن مما يساهم في أزمته الراهنة, وبعد أن أثبتت الدولة اليمنية أنها دولة راشدة معنية بالاستقرار الإقليمي وأمن دول المجلس بقدر ما هي معنية بأمنها الوطني, عندما حلت قضايا نزاعاتها الحدودية مع العربية السعودية وسلطنة عمان وأريتريا بطريقة حضارية وودية بينما ما زالت مثل هذا النزاعات عالقة بين بعض دول المجلس نفسه من دون حل, لتؤكد بان ترك جيرانها الأشقاء لها لتواجه نتائج أزمتها الاقتصادية وحدها هو التهديد الحقيقي لأمن المجلس ودوله الأعضاء وليس الدولة اليمنية الموحدة. وقد حان الوقت كي يدرك مجلس التعاون الخليجي أن الاقتداء بالمقاربة الأمريكية "الأمنية" ليست هي المدخل السليم لتحييد مضاعفات الأزمة الاقتصادية اليمنية أمنيا على دول المجلس, لأن "الاقتصاد هو قلب متاعب اليمن", ولأن "القضايا الرئيسية التي تحتاج إلى معالجة في اليمن ليست الأمن والإرهاب", ولأن المجتمع الدولي ودول المجلس "بالتركيز أكثر من اللازم على قضايا الأمن فيه" إنما "تفاقم فقط الهموم والتحديات التي يواجهها اليمن فعلا", كما قال المحلل والخبير الأمني الدولي والباحث حاليا في برنامج كارنيجي للشرق الأوسط كريستوفر بوشيك في ندوة له مؤخرا, مضيفا أن مجلس التعاون الخليجي هو "اللاعب الوحيد الذي يمكنه إعطاء اليمن ما يريده ويحتاجه بصورة ماسة", أو كما قال منسق الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب في الندوة نفسها, جيلز دي كيرشوف, فإن من مصلحة المجلس "أن يبدأ في بناء علاقات مع اليمن على جبهات متعددة", أو كما قالت الباحثة البريطانية المتخصصة في شؤون اليمن جيني هيل في ذات المناسبة, فإن "مجرد فرد واحد من أسرة يجد عملا في إحدى دول مجلس التعاون الخليجي يمكنه أن يعيل قرية بكاملها" في اليمن. فإذا كانت عضوية اليمن في المجلس مؤجلة, فلا أقل من هذه الخطوة المتواضعة, أي منح الأولوية في أسواق دول المجلس للعمالة اليمنية وتسهيل تدفقها كخطوة أولى, بانتظار الاستجابة لاستحقاق خليجي متأخر. ففي الحادي عشر من كانون الأول / ديسمبر العام الماضي خاطب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي الشيخ محمد الصباح مؤتمر الأمن الإقليمي في البحرين قائلا إن الأمن الخليجي يواجه "التحدي الديموغرافي" الذي "ينتشر ويتفاقم" بسبب إهمال السياسيين وصناع القرار له, ومبينا أن مجموع التحويلات الخارجية للعمالة الأجنبية عام 2008 بلغ (40) مليار دولار, والمفارقة أن هذا هو المبلغ نفسه تقريبا الذي يقول وزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي إن بلاده بحاجة إليه لتأهيل نفسها خلال عشر سنوات للانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي. وقد وصف الشيخ الصباح هذا التحدي بأنه "استراتيجي" ويرتبط "بالحفاظ على هوية الخليج" الوطنية والاجتماعية والثقافية, بينما تمثل العمالة الأجنبية حوالي (12%) من إجمالي عدد سكان مجموع دول المجلس. وفتح أسواق المجلس أمام العمالة اليمنية وتسهيل تدفقها هو جزء رئيسي من الحل للتحدي الديموغرافي بقدر ما هو أيضا جزء رئيسي من الحل للأزمة الاقتصادية اليمنية, لأن اليمن, كما قال الباحث الاماراتي د. خالد القاسمي هو "العمق التاريخي الاستراتيجي لمنطقة الخليج العربي" وهو "البوابة الجنوبية لهذه المنطقة" وبالتالي فإنه "لا أمن من دون اليمن ولا استقرار من دون اليمن" للمنطقة. ومن المؤكد ان تكلفة فتح أسواق دول المجلس أمام العمالة اليمنية أقل من تكلفة تمويل أي حل أمني لاحتواء المضاعفات الأمنية لأزمة اليمن الاقتصادية, كما أن مبادرة كهذه ستوصل المعونات الخليجية مباشرة إلى الشعب الشقيق من دون الخشية من هدرها عبر قنوات الفساد التي يشكو منها, ناهيك عن خفض التكلفة السياسية إلى الحد الأدنى للتحدي الديموغرافي الذي اعتبره الشيخ الصباح "استراتيجيا", وهو كذلك فعلا.0 *صحيفة العرب اليوم الاردنية