من مساوئِ الثوراتِ أنّها تُمكِّنُ أيًّا كانَ من التسلُّلِ إليها والانتفاعِ بعائداتِها وفقَ غاياتِه ومصالحه وأهوائه الخاصّةِ. ذلك أنّ فعلَ الثورةِ يُحْدِثُ فوضى عامّةً في البُنى الاجتماعية والسياسيّة والفكريّة تغيبُ بموجبها الحدودُ بين الأشياءِ وتمتزج فيها الحقيقةُ بالزّيفِ والواجبُ بالحقِّ والوطنيةُ بالعَمالةِ والرُّجولةُ باللُّؤمِ. وهو ما يُبيحُ لأيّ شخصٍ أن يقفَ أمامَ الناسِ ويقولَ إنّه ثوريٌّ حتى ينتسبَ إلى الثورةِ بل ويكونَ زعيمَ ثُوّارِها دون أن تُطلبَ منه إثباتاتٌ في صِدقيةِ ادّعاءاته. ولعلّ الذي حدث بعد ثورتيْ تونس ومصر، والذي سيحدث بعد ثورتيْ ليبيا واليمن، كفيلٌ بأن يمدَّنا بصورةٍ واضحةٍ عن مفهومِ الثورية وقابليتِه للانتهاكِ الأليمِ من قِبَلِ أعداءِ الحريّة وسماسرةِ الحروبِ وسارقي الشعوبِ. *** ولئن كان الثُوّارُ الحقيقيّونَ يموتون في ساحات التغييرِ وميادين الحريةِ وأمامَ بوّاباتِ المُدُنِ بعد أن يُنجِزوا ثورتَهم، أو هم ينسحِبون بهدوءٍ وينكفئون بعيدًا عن الناسِ زاهِدين في غِلالَ الثورةِ وغنائمِها، فإنّ أدعياءَ الثورةِ من ثوّار الصِّنْفِ "درجة أولى" لا يموتون أبدًا، لأنّهم وقتَ الثورات يكونون مختبئين في قصورِهم أو في فنادق إقامتهم خائفين من التغيير ومن الموتِ في سبيلِ تحقيقِه فلا يراهم الناسُ إلاّ عبر شاشاتِ الفضائياتِ أو متربِّعين في الصفحات الأولى للصحفِ الثوريّةِ، يقدِّمون حبوبَ الوعظِ والإرشادِ ويُفْتونَ في الوطنيّة والحريّةِ والدّيمقراطيّةِ في شكلِ بياناتٍ رديئةٍ مليئةٍ بملحِ النفاقِ والمزايداتِ فلا يطالُهم رصاصُ الأمنِ ولا هراواتُ البلطجيّةِ الغليظةُ. *** لا يخلو مهرجانٌ كلاميٌّ من تلك المهرجانات التي تُعقَد في أوطان الثورةِ من وجودِ هذا الرهطِ من الثوّار، تجدهم واقفين بين الناس ببدلاتٍ أنيقة ويخطبون فيهم دون حياءٍ ولا تمجيدٍ لدماء الشُّهداءِ، ويُراهنونَ على ضعفِ الذّاكرةِ الشعبيّة لإخفاءِ سوءاتِهم القديمةِ وملّفاتِ فسادهم الماليّ والعلائقيّ، بل ويُعلنون أحقّيتَهم في الثورةِ ويُطالبون بحقِّهم في مغانِمها السياسيّة والاقتصاديّة والوظيفيّة بكلّ فظاظةٍ وعُنفٍ. * عن العرب اون لاين *كاتب صحافي تونسي