بقلم: أمين اليافعي لا جدال في أن صنعاء فاتنةٌ وساحرةٌ. فاتنةٌ بمناخها الذي لا يَكف عن ممارسة "غنجه" وخيلاءه في محيطٍ تلسعه اللهبُ، وساحرةٌ بما هي، بجميع تمثلاتها وتمظهراتها، متحفٌ أثريٌّ فريدٌ من نوعه، تحتشد على متن صفحتها الأولى كل صور وأشكال ومقتنيات تاريخها، منذ الأزل، وبصورةٍ حيّةٍ، لا لبس فيها. إن "الظاهرة الصنعانيّة"، هي ظاهرة استثنائيةٌ بالنسبة للمهتمين بالبحث والتحري عن آثار الحيوات السابقة، فحُقب التاريخ التي تجري في توازٍ عجيبٍ توفر كثيراً من عناءِ التنقيب في جوف طبقات الأرض سعياً وراء اكتشاف ما قد انقرض. كما إنها مشهدٌ أسطوريٌّ بالنسبة لشاعرٌ يحاولُ أن يقبض على صورةٍ حيّة من سحنةِ الزمنِ الضائعِ، ولا زالت في حالةٍ خالصةٍ من طزاجتها الأولى. إن هذه الخصوصية لصنعاء لا جدال فيها أو عليها، ولكننا هنا، وللأسف الشديد، لسنا بصدد الوقوف على جماليات المكان، وتتبع سيرة ومراتب إغواءاته، فالسياسة تدفعنا دوماً إلى التفكير بأكثر الجوانب قتامةٍ وقساوةٍ. سأحاول من خلال السطور (الزهيدة) التالية أن أقرأ المشهد الصنعاني من منظورٍ جيوبوليتيكي، وبالأخص من خلال المعنى الذي أضفاه عليه مايك كرانغ في دراسته الشيّقة "الجغرافيا الثقافية: أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية"، أي الكيفية التي يتم بها "كتابة القوة على المشهد". فالأماكن باعتبارها "مشاهد" يمكن أن تُقرأ كنصوصٍ يتم التعرف من خلالها بوضوحٍ على معتقدات وعادات الشعوب. إذ للمكان دورٍ حاسمٍ؛ ليس في تشكيل وترسيخ الممارسات والأفكار؛ العادات والتقاليد فحسب، ولكن لأنه أيضاً غالباً ما يؤوَّل بصفته نظاماُ رمزيّاً تم تشكيله عن طريق قدرات وممارسات ومعتقدات الشعوب ليلائم ثقافتهم الخاصة وأوضاعهم الخاصة كذلك، كما يُعبّر عن الأيديولوجيات الاجتماعية التي يتم تخليدها وتدعيمها من خلاله (فبتغيّر المعتقدات تتغيّر شكل الحديقة). بهذا المعنى، تتبدى صنعاء من خلال ملمحٍ بارزٍ، هو ملمح السور، أو الجدران والحوائط العالية، وبمعنى آخر، الحصار والانفصال ومحاولة سن القطيعة مع كل ما يحيط بها. فهي، سواءً في وضعها التاريخي الذي جعلها أسيرة أبدية لحصارٍ قبائلي يلفّها من جميع الوجهات ولا سبيل إلى الخلاص منه ولو بسورٍ متينٍ أقامته حولها وأرادت به أن "تحاصر حصارها" لتقي نفسها من افتراس القبائل الأزلي لها؛ فزادت به حصاراً إلى حصارها.. أو في وضعها الحالي، حيث الفضاءات العامة والخاصة يتم تشكيلها بصورةٍ غريبةٍ لا تشبهها في ذلك أي مدينةٍ أخرى في العالم، ولا تتناسب حتى مع شروطها و ظروفها الخاصة. فهي كمدينةٍ، بمساحةٍ محدودةٍ، تحوطها الجبال من جميع الجهات، ومع ذلك، ستجد أكثر ما يلفت انتباهكَ هو ذلك التسابق الشّرِه للتوسع أفقياً في سبيل بناء المنازل الخاصة المنعزلة، بينما غالباً ما تُستخدم البنايات العمودية، القليلة جداً مقارنة بحجم المدينة الكلي، للأغراض التجارية فقط. وفي المنازل الخاصة، المبنية حديثاً، ستجد صورة مطابقة تماماً لصنعاء التاريخية التي تحاول أن تخفف من قلقها بعزل نفسها خلف جدران عالية، فالأسوار التي تحاصر هذه المنازل مبالغٌ فيها إلى الدرجة التي تدعوك إلى الافتراض بأن حرباً عالمية هي على وشك أن تتفجر في أزقة هذه المدينة! وفي قلب هذا المشهد، الذي أصبح بحكم الضرورة مغلقاً على ذاته، ومحاصراً لها، يصبح من الصعب على المرء تخيّل أن تجري في فضاءه البشري مُخالطات وتعايشات ومثاقفات ذات طابع مدنيٍّ منفتحٍ ومتينٍ، تسمح بتشكيل نمطٍ جديدٍ من العلاقات بين الناس، وبالتالي تتغيّر الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية. فالفضاء يقدّم نفسه، على أحسن وجهٍ، وكأنه فضاءٌ للتبادل العابر للمنافع، بينما سيعود الجميع في نهاية المطاف إلى ثكناتهم المعزولة عزلاً جيداً. وقد أجاد الباحث الفرنسي ميرميه في تصوير الأمر وهو يتتبع تاريخ هذه المدينة من خلال كتابه "كومونة صنعاء"؛ فصنعاء التي هي فريسة دسمة تشتهيها القبائل دوماً على حد تعبيره، صارت مناراً مضيئاً تنهار عنده كل المحاولات الرامية إلى إنشاء دولة مستقرة. وليس من المبالغة القول هنا بأن الحضور في معمعات هذا المشهد؛ المحاصر والمخطط بقدرة قبلية خارقة للعادة، هو حضورً قلقٍ، ويصعب أن يكون للمرء هناك وجودٌ مطمئنٌ وموثوقٌ به وبدون الانتماء إلى قبيلةٍ كبيرةٍ أو سندٍ أو سورٍ عالي؛ تتساوى في ذلك المشاريع الكبيرة، الخاصة والعامة، وتلك المشاريع متناهية الصغر.