إذا كانت الثورة السياسية الوطنية شرطاً لولادة الدولة القانونية والديموقراطية، فلا يضمن اندلاعها أن «الديمقراطية» ستكون نتيجة طبيعية لهذه الثورة، فمن الممكن أن تقوم الثورات من أجلها ثم تنتهي بنظام أبعد في تسلطه ولا ديموقراطيته من الذي سبقه، وهو ما يقودنا أيضاً إلى أن تحقيق الديموقراطية وتوطينها في التربة المحلية في متناول الشعوب إن أرادت، فليس هناك ما يمنع المجتمعات التي أجهضت ثورتها الوطنية، أو التي لم تعرفها أصلاً، من أن تعيد بناء تاريخها المدني (بإرادة ووعي جماعي) من حيث انتهت إليه المجتمعات التي حققت ديموقراطيتها، نعم، فليس من الواجب في علم السياسة أن يرتبط شرط توطين الدولة وديموقراطيتها بوجود ثورة وطنية مسبقة، فالديموقراطية في الآخر هي مؤسسات مدنية عملية ونظم إجرائية، وعليه، فليس من الضروري أيضاً أن يتعمق شعور الجميع بأنهم أفراد أحرار ومسؤولون «بالدرجة نفسها» كي يصبح ممكناً تطبيق الديموقراطية، فأنا رب الأسرة وراعيها وحين يعيش أفراد أسرتي في جو ديموقراطي أوفره بالحوار والتعبير عن المطالب ومناقشة الرؤى الحاضرة والمستقبلية، حين يعلنون تذمرهم واحتجاجهم انطلاقاً من قيم الديموقراطية فيؤخذ بها ضماناً للاستقرار والنمو، فهل يعني هذا كله «أنني وهُم» تساوينا في الحرية والمسؤولية؟ بل أعطني مجتمعاً تساوى فيه أفراده في هاتين الناحيتين (الحرية والمسؤولية)؟ إنما طبعاً تظل المسائل نسبية كغيرها، فكلما ارتفع سقف الوعي بالحرية والمسؤولية وجدت الشعب أكثر تمدّناً وتحضّراً ونسبته في جانب الديموقراطية أعلى، وهو ما يعني أيضاً الإعداد المسبق بالنشأة والممارسة لوجود هذا السقف في حياة الإنسان، فلا تقنعني بأن الطفل العربي المقمع طوال سنوات تكوين شخصيته في البيت والمدرسة، هذا الطفل الذي تسلط عليه أبواه ومعلموه باسم الواجب والتقاليد والمفروض وغير المفروض، أنه وبتجاوزه العشرين عمراً سيعرف كيف يتحرر من قيود جوه المكبوت، وخصوصاً أنه لا يزال يعيشه - على الأقل - مع أهله، فالمسألة لا بد أن تكون تدريجية بالتجربة والاقتناع بالتصحيح، وإذا كانت الدولة مسؤولة عن الجزئية الديموقراطية الخاصة بأسلوب تربية النشئ والجيل في مؤسساتها التعليمية، فالبيت يتحمل جزئية تنمية الروح والقيم الديموقراطية لدى أبنائه (الأساس الأول). كيف أهدرنا طاقتنا؟ وجهة تطورنا المدني والسياسي تحدد نجاحنا أو إخفاقنا في معارك التصدي الحضاري، ولأن الدولة القانونية والديموقراطية هي اللبنة والارتكاز ينطلق منهما أفرادها لتقدمهم العلمي والتقني (التصدي الحضاري)، هذه اللبنة لا نزال نتصارع عليها، أين نضعها ومتى وكيف؟ ومن يضعها ومن يزحزحها؟ فإذا كانت هذه هي حال تنسيق قوانا وجهودنا في لبنة الديموقراطية، فلا نستغرب إذاً تأخرنا الحضاري، فالتربية الإنسانية والتنظيم العقلاني أهم ما يميزان السلوك المتمدن عن نظام البداءة والجهالة والهمجية، وهما أسلوب حياة قبل أن يكونا اقتناء أحدث الوسائل واستخدامها، أسلوب الحياة هذا «يجب» أن نشتغل عليه، فإذا لم نفعل فلا نلوم غيرنا لما أهملنا أو فشلنا في خلقه في بيتنا أولاً، يقول نيتشه: «الاعتقادات الراسخة أعداء الحقيقة، وأكثر خطراً من الأكاذيب»، وهذا التحجّر والتصلّب هو ما ابتلي به العقل العربي، فتجده مصراً على اعتقاده مهما قرأ وحاور وجرب، بل إنك لتجده مقتنعاً بشيء ومطبقاً لشيء آخر تماماً، ومهما كان الشحن الديني بما يتمتع به من رأسمال روحي قائماً على تعظيم قيم الأخوة والتكافل والنزاهة و.. و..، فلن ينتزع عقولنا من سقطتها، يقول نيتشه: «أحياناً يبقى المرء وفياً لقضية ما لمجرد أن خصومه لا يغيّرون تفاهتهم»، فهل معنى هذا أن حياتي مرهونة بتفاهة خصمي؟ فإن اعتبرتها كذلك فهل يعني ذلك إعفائي من تفاهتي التي آمنت برهن حياتها بتفاهة الآخرين؟ ولا أقول إلاّ أن تفاهتي من تفاهتي وترفّعي من ترفّعي، ومن لبنتي تنطلق أسرتي ودولتي بحالها، فكما أكون يولّى عليّ.