إثر الحملة الفرنسية على مصر، شعر المصريون أنهم عاجزون تماماً عن مقاومة الجبروت الفرنسي بقضّه وقضيضه، لاسيما بعد أن هشّمت المدفعية البونابرتية أنف أبي الهول، في إشارة سافرة المعنى وبالغة التهديد والوعيد للشعب المصري ! حينها، لم يجد ابن البلد المصري سوى النكتة سلاحاً صالحاً للاستخدام ضد المحتل الفرنسي. ولأول مرّة في التاريخ، تستطيع النكتة الشعبية أن ترتقي إلى مستوى السلاح الفتاك، إلى الحد الذي جعلت نابليون بونابرت -بكل جبروته- ينتفض هلعاً لمجرد نكتة، الأمر الذي دعاه إلى إصدار قرار بإعدام كل مصري يضبط مُتلّبساً بإلقاء نكتة.. ثم خفَّض عقوبة الإعدام إلى الجَلْد!! وبعد نكسة 5 حزيران 1967، تصاعدت حمى التنكيت على القيادة السياسية والعسكرية المصرية.. وسلخ المواطنون ظهور العسكر بسياط النكتة اللاذعة، فإذا بالزعيم جمال عبد الناصر يجد نفسه مضطراً للصعود إلى منبر البرلمان، ليرجو شعبه أن يتوقف عن إلقاء قذائف النكتة على ثكنات الجيش المصري! وأذكر أننا كنا -في عدن، خلال السبعينيات والثمانينيات بالذات- نستجدي النكتة السياسية للسخرية من الأوضاع القائمة، حينها، على غير صعيد. فإذ عجزنا عن صناعتها وصياغتها، استوردناها من أوربا الشرقية أو أمريكا اللاتينية.. بل كُنا أحياناً نحيل النكات الجنسية إلى نكات سياسية!! وقد كان الرئيس علي ناصر محمد يتضايق كثيراً من النكات التي تُقال فيه، معتبراً إياها "مؤامرة" تستهدفه من قبل خصومه في الحزب والدولة حينها.. أما المناضل الشعبي البارز على عنتر فكان دائم السؤال عن آخر نكتة قيلت في شخصه. وكان يضحك لها بصدق وتواضع! والنكتة هي يتيمة الأب على الدوام. ولهذا تسري في المجتمع وتخترق الأقبية، كالنار في الهشيم. لا أحد يستطيع ضبط صاحبها الشرعي، على العكس من النص المكتوب أو الرسم المنشور.. غير أن الوجه السلبي للنكتة أنها تُقنع مُردّدها بأنه قد أدى واجبه حيال الواقع أو الحاكم أو الأزمة، بالضحك عليه وعليها.. وكفى الله المؤمنين شر النضال! غير أن استمرار الناس في حالة التنكيت هو أهون للناس وللمجتمع وللدولة؛ لأن المرحلة التي تلي حالة التنكيت –منطقياً- هي التدمير. إذْ يحل العنف، حينها، محل السخرية. والحمد لله، أننا لم نبلغ –بعد- هذه المرحلة! [email protected]