لا يدخر الجنرال علي محسن الأحمر جهداً في إثبات أنه مشكلة من مشاكل اليمن، وسبباً رئيساً في أزماتها، وأن رحيله منها سيكون مبادرة جيدة للسماح لليمنيين ببناء دولتهم المدنية والديمقراطية، إلا أنه سرعان ما يلتف على أقواله تلك ويعود لممارسة ذات المهنة التي جُبل عليها علي عبد الله صالح، المراوغة. يبدو على محسن وكأنه يحاول تقليد علي عبد الله صالح، أو أنه يحاول وراثته، فهو لا يدخر جهداً لنقض مقولاته بدءاً بدعم وتأييد الثورة السلمية، وليس انتهاءً بادعاء الرغبة في مغادرة اليمن برفقة أولاد صالح. في أواخر مارس الماضي ظهر الجنرال في مقطع ميلودرامي ما تزال قناة "الجزيرة" تعيد بثه باستمرار، أعلن بصوت متهدج وكأنه سيطير من الفرح عن "دعمه وتأييده السلمي لثورة الشباب السلمية"، وفي اليوم التالي قالوا أنه فقط سيحمي الساحة والثوار، ثمَّ بدأت قواته تتدخل في شؤون الساحة، تعتدي، تضرب، وتعتقل، فيم هو يعلن في كلِّ مناسبة عما يعتبره سراً من أسرار صالح، مرة عن علاقته بأحداث يناير 86، ومرة عن عمليات الاغتيال التي قام بها، وأشياء أخرى كأنه لم يكن جزءاً من نظام صالح، بل ركيزة من ركائزه، ومع الوقت وجدناه فجأة أصبح قائداً للثورة، وها هو يلتقي بالسفراء، ويناقش معهم المستقبل، ويتحدث باسم الشباب دون إذن منهم، ويعلن موافقتهم لأشياء لم يعطه أحد الحق في الحديث نيابة عنهم فيها، وفي الرابع من يونيو الماضي، عقب مغادرة صالح على طائرة خاصة للعلاج في الرياض، كان أنصاره وأنصار التجمع اليمني للإصلاح يعلنون في الساحات أن استقالة الجنرال الأحمر جاهزة، وأنه سيسلمها إلى ياسين سعيد نعمان، ولم يحددوا الصفة التي سيستلم بها نعمان تلك الاستقالة. حدث إذاً تطور كبير خلال شهرين ونصف، من الدعم والتأييد إلى الحماية، إلى الاستقالة المزعومة، واتضح بعد ذلك أن الصحافة الناطقة باسم الفرقة الأولى مدرع تنقل يومياً أخباراً وتقارير عن تحركات الجنرال ولقاءاته الدبلوماسية وتعبيره عن لسان حال شباب الثورة ومطالبهم، وبين كل هذا وذاك لم ينسَ الرجل أن يعلن دائماً أنها ثورة سلمية، وأنه على استعداد لمغادرة البلد من أجل أن يبني اليمنيون دولتهم المدنية، وهذا في حد ذاته إقرار كامل ومتكامل منه بأنه أحد عوائق قيام تلك الدولة. يقول أندريه موروا عن شأن كهذا: "إذا تحدثت بسوء عن نفسك فالجميع يصدقك"، بيد أن الجنرال الأحمر لا يتحدث عن نفسه مباشرة، والآخرون يصدقونه في حديثه ذاك، بشكلٍ غيرِ مباشر أيضاً، فمن يتناقلون بإعجاب أو عدم تصديق أو استغراب ما يشيعه الجنرال عن نفسه، يعلمون ضمنياً أنه أحد مشاكل اليمن، ويصدقونه في ضمنياً، وبدون التعرض للمباشرة في الخطاب والتيقن أنه كذلك، حتى بدون أن يكشف الشيخ ناجي بن عبد العزيز الشايف مؤخراً عن فشل وساطته في إقناع الطرفين (نجل الرئيس وعلي محسن) بالخروج من اليمن، وعلى طائرة واحدة كما يردد الأحمر دائماً. لا يبدو الجنرال جاداً في زهده المزعوم، يشبه في ذلك على عبد الله صالح الذي يبدي على الدوام زهده في الحكم وكرسيه، ويعلن استعداده التنحي باشتراطات تعجيزية مضحكة، وهي الاشتراطات التي إن توفرت فسرعان ما يجد شروطاً أخرى تضاف إليها، أو إذا به ينقلب حتى على نفسه معلناً بقائه لمصلحة اليمن، كون هذا البلد لن يرى السعادة والرفاهية إلا في ظل قيادته، أو إذا قام بتسليم السلطة والحكم لأيادٍ أمينة عليه، كأنه لا يمكن للشعب الذي يمتد على خارطته المختلفة التضاريس أن يكون أميناً على نفسه إلا وفقاً لاشتراطات صالح. الجنرال الأحمر يشترط هو الآخر خروج أبناء وأبناء أخ الرئيس لخروجه هو، وهذه الحكاية لا تحتاج إلى ذكاء لكشف عدم منطقيتها، وبدون قراءة للنوايا، فلو أن علي محسن يرغب فعلاً في مغادرة البلد بعد أن أقنع الجميع أنه أحد مشاكلها، لغادر دون الحاجة لاشتراط مغادرة آخرين، فقيامه بهذا الفعل، سينطوي أولاً على تأكيد زهده في البقاء كأحد أعمدة وأركان النظام السابق أو اللاحق للثورة، وسيضعه في منزلة لا أعتقد أنه يحلم بها أو يفكر، ليس لأنه لا يعلم، بل لأنه لا يريد. ولو أنه أقدم على هذا الفعل، فهو بالتالي سيضع أولاد الرئيس وبقية أركان النظام في مواجهة مباشرة مع الشعب صاحب الخيار والقرار، وهو الشعب الذي خرجت ملايينه طالبة من علي عبد الله صالح ونظامه وكافة أعوانه –بما فيهم علي محسن ذاته- الرحيل، وترك اليمنيين يعاينون حاضرهم ومستقبلهم، ويحققون أحلامهم بالحرية والعدالة كغيرهم من الشعوب، فتصدى الجنرال الأحمر، كما يزعم، لمهمة الدفاع عن هؤلاء الثوار ونقل المواجهة إلى مربع آخر. علي عبد الله صالح وضع اشتراطات تعجيزية وطالب برحيل آخرين معه في أوقات كثيرة، ومنهم قائد قواته في المنطقة الشمالية، وفي هذا عناد شخصي وطفولي أيضاً، لكن صالح كان يدرك أن هؤلاء الذين طالب برحيلهم معه إنما كانوا شركاءه حتى قبل أشهر في كل ما تسبب في خروج اليمنيين عليه، وهو إذ طالب برحيلهم معه، كان ينتقم منهم بنفس الطريقة، هم يريدون إقصائه، وهو لا بد أن يعمل على إقصائهم، ليس حباً في الشعب الذي ينشد الحرية والكرامة، إنما لأنه يعرف أنهم عملوا على التخلص منه باستخدام الجماهير كما أقنع نفسه، وكما أقنعوا هو أنفسهم، تناسى هو أو تجاهل أن الجماهير خرجت انتصاراً لحريتها وكرامتها، ولم تخرج بإشارة من حميد الأحمر أو إذن من علي محسن، لكنه حسناً فعل حين طالب برحيلهما وآخرين معه، وإن كان هذا الفعل غير مجدٍ أو نافع إلا على مستوى أنه كشف الجميع للجميع، فاتضح أن لا أحد من الطرفين يرغب في المغادرة حقيقة، بيد أن مغالطات صالح ومراوغاته مألوفة ومبررة بحسب منطقه، فهو إذ يرى نفسه وقد جلب هؤلاء ليكونوا أعوانه على مدى ثلاثة عقود؛ كان عليه بمنطق الرجل الذي يعلم أنه مذنب أن على من شاركه ذنوبه أن ينال نفس الجزاء، لكن علي محسن وحميد الأحمر وآخرون رفضوا الانصياع لذلك، لأنهم أظهروا أنفسهم كأبطال وقادة للثورة، وممثلين لخيارات الشعب والجماهير، دون أن يشعروا بأي ذنب، وراحوا عوضاً عن ذلك يسوقون أنفسهم كثائرين لا يُشق لهم غبار. اعترف علي عبد الله صالح أن هناك ثورة، ومؤخراً خاطب شبابها ساخراً منهم بأن هناك من سرق ثورتهم من الفاسدين، ومرة أخرى أعلن أن أولئك الفاسدين هربوا بفسادهم إلى الساحات، كان علي عبد الله صالح كمن يقول لليمنيين: "أنا فاسد نعم، لكن الفساد لن يرحل برحيلي، لأن هناك فاسدين من أعواني انتقلوا إلى قيادة ثورتكم". كان حينها يرد في خطاب متلفز من الرياض على خطاب متلفز آخر من صنعاء قدمه الجنرال علي محسن الأحمر نفسه، وحرص هذه المرة على أن يقلد صالح كثيراً، حتى أنه ارتدى ملابس مدنية غاية في الأناقة لم يتعود الناس على رؤيته فيها، وهو الذي يظهر عادة مزهواً ببزته العسكرية، والجعب الملحقة بها، حاملاً لقطعة كلاشينكوف، حتى وهو يعلن "دعمه وتأييده السلمي لثورة الشباب السلمية". لسعادة الجنرال طرق كثيرة في تقليد فخامة المارشال الذي فقد فخامته، صالح يتهم علي محسن بالتسبب في ثلاثة من حروب صعدة التي أهلكت النسل والزرعهناك، لكن علي محسن لا يتواني عن الرد أكثر من مرة، فيتهم المارشال بالتسبب في أحداث يناير 86 في جنوب البلاد، وتدبير الاغتيالات السياسية كاغتيال مشائخ الحجرية، وصناعة تنظيم القاعدة والتلاعب به مع الأطراف الدولية، هنا يستخف الاثنان بعقول اليمنيين ومشاعرهم، كلٌ منهما ينسب إلى الآخر أعمالاً كانت في السابق من الأمور التي يتم الحديث بلغة تخدم خطاب النظام وسياساته، فحرب صعدة كانت ضد متمردين مرتزقة وعملاء لدولة متآمرة، وأحداث يناير استخدمت في نفس الخطاب للتشنيع بالحكم الشمولي في الجنوب قبل الوحدة، وبدا الرجلان كأنما كانا يقودان دولتين ونظامين وجيشين مختلفين، وبالتالي فلا مسؤولية لدى أحدهما عما ارتكب الآخر أو قام به، إنه أمر أشبه ما يكون بحالة انفصام كاملة. يتصارع الرجلان على أشياء ومسميات ليست ملكهما، فيستحضران، كل على حدة، أجواء رواية "زئبق" لإيميلي نوتومب، حيث قبطان عجوز سادي يلتقط عشيقاته إثر حوادث عنيفة ويوهمهن بتعرضن بسببها لتشوهات خطيرة، ولا يوجد من ينقذهن من سوء المصير سواه، ويقنعهن بالاحتماء من عيون الآخرين باللجوء إلى جزيرة يملكها حيث يعمل على حصارهن، وإقناعهن بأن حياتهن المستقبلية ستكون في خطر كبير إذا وقعت عيون الناس عليهن، في حالة الرجلين يختطف أحدهما الشرعية الدستورية ويحرمها على غيره، ويفسرها لنفسه ولذاته وهواه، فيما يدَّعي الآخر حماية الثورة، ويكيفها وفقاً لمشيئته وحلفائه الدينيين والقبليين بزعم حمايتها، وهي الخدعة التي انطلت على الجميع، حتى استيقظ الكثيرون على حقيقة أن ساحة الثورة أصبحت جزءاً من ملحقات الفرقة الأولى مدرع. وإذا كان المارشال صالح يؤكد كل يوم أن اليمن لن تعيش بدونه في سلام، وأن بديله ونظامه ليس سوى حرب أهل وتمزق وشتات، فإن الجنرال محسن يوحي من خلال تصرفات قواته في الساحة، وترويج أنصاره، وتلميحات تصريحاته وظهوره الإعلامي أن الثورة لن تنتصر بدونه، وأن قوات النظام –باعتباره أنه ليس جزءاً من هذا النظام- كانت ستقتحم الساحة، وتقتل ثوارها، كأن هؤلاء الثوار خرجوا للبحث عن حماية، وليس لإسقاط النظام، فكان هو الحامي الضرورة للثورة، وبدونه لكانت الثورة في خبرٍ كان. يقول الأحمر في حوار له مع صحيفة "الحياة" اللندنية في يونيو الماضي أنه أبلغ الرئيس أمام عددٍ من مستشاريه: "الشعب اليمني الذي خرج بالملايين إلى الساحات والشوارع في كل المدن والمحافظات يطالبك بالرحيل، هو شعبك الذي تشدقت 33 سنة باحترام إرادته، وحين يطالب الشعب بإسقاط النظام فهو لا يطالب بسقوط الدولة، إنما بسقوط النظام المتمثل في رئيس الجمهورية وحاشيته الذين باتوا منبوذين لكثرة فسادهم وإفسادهم، ولما يرتكبونه من أخطاء وحماقات بحق بلدهم وشعبهم لحماية مصالحهم والاستيلاء على مقدرات الوطن وإمكاناته ومصادرة مكاسبه ومنجزاته لحساب الرئيس وأولاده وبعض مواليه. لم تعد تنطلي على اليمنيين الأكاذيب، ولا الشعارات البراقة، ولم يعد الشعب يحتمل مزيداً من الفساد ومزيداً من الفوضى، ومزيداً من انهيار الدولة اليمنية، لم يعد الشعب اليمني يقبل بحاكم يضع مصالحه وأهواءه ورغبات أولاده فوق كل اعتبار، ويتبع كل طرائق الفساد والإفساد لكي يبقى حكمه إلى الأبد، لكي يرثه أبناؤه من بعده"، دون أن يورد رد الرئيس عليه، ويبدو أن أي امرؤٍ في موقع الرئيس حينها كان سيرد عليه: "هل يعني هذا أنك لم تكن أحد أعواني وحاشيتي الذين تتحدث عنهم بهذه الطريقة"، وطبعاً لم ينسَ الجنرال أن يذكر في ذلك الحوار –كعادة مشتهاة لديه- أنه ساهم في وصول صالح إلى الحكم، وإن لم يؤكد كالعادة أيضاً أنه عمل على حمايته وبقائه في كرسيه، وأنقذه من السقوط، وهو الأمر الذي يدفع إلى التساؤل: "هل يستخف الرجل بعقول اليمنيين، أم أنه يريد الاعتراف بذنب أصبح نادماً عليه"؟. هل يدرك الجنرال علي محسن الأحمر أن الأمور لن تستقر على هواه في حال سقط النظام ورحل أولاد الرئيس وبقية أعوانهم، وأن الجماهير التي أجبرت علي عبد الله صالح على الاختباء في قصره، وعدم مغادرته إلا إلى الرياض وبلا عودة، لم تعد بحاجة للوصاية عليها من أحد، ولن تقبل بوجود حاكم آخر يحميه قائد عسكري يتولى خوض حروبه قبل أن ينشق عنه، كما أنها لن تقبل بنظام بديل لنظام صالح بنفس الملامح؟ وهل يدرك أيضاً أن الثورة إن فشلت لأي سببٍ، فلن يكون بيده ويد حلفائه ما يتقاسمونه من نفوذ ومصالح في البلد، كون فشل الثورة- سواء بعدم سقوط النظام، أو بالحرب الأهلية- سيعيد ترتيب خريطتها من جديد، وفي حالة تم تنفيذ الحسم العسكري المرغوب فيه من قبل الأحمر وحلفائه، لن يبقى في أيديهم الكثير ليبسطوا عليه نفوذهم، ويعيدوا من خلال إنتاج أنفسهم. يقدر الكثيرون في اللواء علي محسن ذكائه والتزامه بوعوده على عكس علي عبد الله صالح، يبدو بالفعل أن علي محسن أشدُّ ذكاءً من حتى الكثير من حلفائه المدنيين والقبليين والعسكريين، لكننا في مهمة تقدير وفاء بوعوده، خاصة تلك التي قطعها أمام الجميع بالسماح لليمنيين ببناء دولة مدنية.