قارب الشهر على الانتهاء منذ اغتيل الدكتور محمد عبد الملك المتوكل، ولا عزاء لنا فيه سوى عويل بيانات الشجب والتنديد الرسمية والجماهيرية والحزبية التي ندرك جميعاً مدى كذبها أو زيف أغلبها، على الأقل، بصورة لا تقل مقتاً ربما عن ذلك الزيف المعشعش في حياتنا منذ أن قرر الفاتحون الجدد سلوك درب الحداثة التي لم تزدنا إلا فجوراً.. بدليل أن أياً من هؤلاء الشاجبين الكثر لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء مسألة السلطة ومحاسبتها لمعرفة هوية الجناة والوقوف على أسبابهم ودوافعهم الإلغائية، ولو في سياق بحثنا وتفتيشنا المفترض عن مكامن الوجع التاريخي الذي يعصف بنا وبأجيالنا الحائرة والمقهورة على يد عسس القتل والرذيلة.. ليتبيَّنوا، على الأقل، بأن انتزاع روح على شاكلة المتوكل هو أمر لن يكون في مقدورنا كأمة التعافي من آثاره على المدى الزمني الطويل. شهر كامل يوشك على الانقضاء ولا شيء يلوح في الأفق سوى الخوف والترقب والقلق المشوب بحيرة الأسئلة حول من سيحين دوره للرحيل بالطريقة ذاتها الغادرة والمباغتة، وما الذي تبقى لنا يا ترى من قرابين ثمينة ومقدسة يمكن أن تشبع نهم أولئك القتلة والمعتوهين بعد أن انتزعوا منا- وسط العاصمة صنعاء وعلى مرأى من العالم أجمع- آخر حكمائنا الذين لا يمكن بأي حال استبدالهم أو التعويض عن غيابهم. إنها نرجسية القتل والغيلة والانحطاط التي ظلت ولا تزال تغتال فينا- وباسم الله والحداثة منذ لحظات الميلاد الأولى- كل قدرة على النهوض والتيقن والابتسام، لنظل على ما نحن عليه مجتمعاً مريضاً وحائراً وممزقاً، تتنازعه مخالب الظلم والفوضى والعثرات والخوف العميق من المستقبل.. فمشهد الاغتيال البربري الذي طال المتوكل وإن كان لا يختلف من حيث مضمونه ودوافعه الإجرامية عن تلك التي تستهدف تقويض مسار العملية السياسية وبنيان السلم الأهلي والمجتمعي برمته.. إلا أنه لا يمكن بأي حال النظر إليها في الوقت ذاته بوصفها جريمة سياسية عادية، إذ أنها ومن خلال وطأتها الكارثية جاءت لتذكرنا جميعاً، دون شك، بفداحة الثمن الذي سيتعَّين علينا معشر اليمنيين دفعه، ونحن الذين لا نزال عاجزين حتى اللحظة ومنذ ما يقرب من اثني عشر عاماً كاملة عن استعادة وقارنا وسلامنا الداخلي الذي فقدناه منذ اغتيال الشهيد جار الله عمر، الذي رحل عنا بالطريقة ذاتها التي رحل بها للتو شهيدنا الأخير الدكتور محمد المتوكل.. فكلاهما رحل في لحظات تاريخية معينة تعد الأقسى في تاريخنا السياسي والوطني.. لحظات كنا ولا نزال فيها في أمسِّ الحاجة لوجودهما بيننا ومعنا ومن حولنا، ليتسنى لنا، على الأقل، تلمُّس طريقنا من خلالهما صوب المستقبل عبر استرشادنا بمظاهر الحكمة المنبعثة من وسط رؤاهما الصائبة والعميقة والمتفائلة لمستقبل العلاقات السياسية والوطنية والإنسانية في البلاد.. وهنا يبرز الفارق جلياً بين أن تفقد شخصاً عادياً، حتى ولو كان عزيزاً أو مقرباً، وبين أن تفقد وطناً بأسره.. صحيح أنه ومنذ أن منَّ الله على بلادنا بنعمة الحداثة المشيدة بعمائم الإخوان والقتل يعصف بنا يميناً وشمالاً، بحيث بات في الإمكان رؤيته والتعايش معه في كل يوم وفي كل لحظة وفي كل ركن وشارع ومدينة وزاوية من زوايا وطننا السليب باسم التغيير والتحول الثوري.. لكنه لا يصبح، أي القتل، بتلك الوطأة والبربرية التي تكسو وطناً بأسره بتعابير الحزن والحيرة والانكسار إلا حينما يطال هامات لا تعوَّض على شاكلة جار الله عمر أو محمد المتوكل.. إذاً.. هل هناك شك يا ترى في عدم ترابط خطط عسس البندقية بمشاريع عسس الظلام الذين يعيشون بيننا ويبتسمون لنا صباح مساء، وينظروننا دون كلل عن فضائل الحداثة المستنسخة داخل أقبية العمالة؟ كان في مقدور الإرهابيين أن يقتلوا وأن ينزعوا منا ما شاؤوا من أولئك السياسيين الفائضين عن حاجتنا ويتركوا لنا في المقابل أمثال هؤلاء الذين يصعب العثور على بدائلهم.. فحينما اغتال الانقلابيون في جمهورية تشيلي بأميركا اللاتينية بزعامة الجنرال سيئ الصيت (أوغستوا بينوتشه) الرئيس الاشتراكي المنتخب الرفيق (سلفادور الليندي) صبيحة يوم الثالث من سبتمبر العام 1973م.. ورغم أن حصيلة القتلى والمفقودين تخطت خلال الأسبوعين الأولين من عمر الانقلاب، المدعوم أميركياً آنذاك، رقم الستين ألف ضحية، إلا أن عزاء الشعب التشيلي ظل منصبَّاً ولعقود زمنية مظلمة حول شخص شهيدهم الأعظم الرئيس المغدور سلفادور الليندي، الذي ورغم قيام الانقلابيين آنذاك بإخفاء كل أثر لجثمانه الذي أشيع حينها أنه تم إلقاؤه في المحيط من طائرة محلقة في أعالي الجو، إلا أن هذا لم يمنع التشيليين من تشييد ضريح رمزي له في مسقط رأسه بمدينة ساتنياغو، كتب على شاهده عبارة تقول (هنا يرقد سلفادور الليندي رئيس جمهورية تشيلي القادم).
رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن.