لاحظت خلال الفترة الماضية تلكأ الحكومة عن اتخاذ موقف محدد وواضح تجاه أسعار المشتقات النفطية رغم تعدد تلك الأسعار واختلافها بين بعض المحافظات والذي ينم عن غياب أية رؤية شرقاً أم غرباً، في الوقت الذي تصدح آراء من هنا وهناك مطالبة بإعادة أسعار المشتقات إلى مستوياتها السابقة، وهو أمرٌ في قمة الخطورة. لذلك، ومن باب المسئولية الوطنية أرفق هذه المقالة لتسليط الضوء على هذه المسألة من مدخل موضوعي ونظرة إلى المستقبل. النفط وإشكالية دعم المشتقات النفطية لا يعتبر بأي حال هذا الموضوع أو عنوانه جديداً، أو حتى مقتصراً على الحالة اليمنية، إذ كان وما يزال موضوعاً للنقاش وأحياناً الجدل الفكري لعقود طويلة من خلال تقييم آثار إنتاج النفط في العديد من الدول سلباً وإيجاباً. وقد يستغرب البعض الحديث عن سلبيات "هذه الثروة" باستثناء ما نعرفه عن دوره في تلويث البيئة. والحقيقة التي يغفل عنها كثيرون أن النفط قد ترك تأثيرات عميقة على اقتصاديات الدول المنتجة له سواء الصناعية منها مثل هولندا والنرويج أو الأقل تنمية ومنها اليمن. وببساطة، فإن أهم تلك التأثيرات السلبية تتمثل في الدفع بالدولة النفطية لتتجه نحو اقتصاد ريعي اعتماداً على إيرادات سهلة تحصل عليها الدولة ولا يقابلها نشاط إنتاجي حقيقي. وبطبيعة الحال، يصعب على هذه الدول رفض هذه النعمة، ولكن الأهم أن يكون لديها رؤية لتعظيم الانتفاع منه وبشكل رشيد ودون التأثير على القطاعات الأخرى في الاقتصاد الوطني والذي يجب أن يكون متنوعاً ومتوازناً. إن إنتاج النفط في اليمن ومنذ عام 1984 من حقول مأرب قد حلّ إلى حدٍ كبيرٍ مكان تحويلات المغتربين اليمنيين في توفير النقد الأجنبي للاقتصاد الوطني حين أخذت تلك التحويلات تتراجع ابتداءً من منتصف ثمانينات القرن الماضي، رغم استمرارها كأحد المصادر الرئيسية. وقد أدى المصدر الأول (تحويلات المغتربين) وكذلك المصدر الثاني (التحويلات) إلى خلق تشوهات في الاقتصاد الوطني من خلال المحافظة على سعر صرف الريال اليمني عند مستويات أعلى بكثير مقارنة باقتصاد متوازن يعتمد على قطاعات إنتاجية كالصناعة والزراعة والسياحة وغيرها، والتي تعتبر القطاعات الأكثر تضرراً من ذلك الوضع. بل، لقد حال استمرار ذلك الوضع وحتى اليوم دون نهوض الأنشطة التي يمكن أن يكون لبلادنا فيها ميزة نسبية للتوسع في السوق المحلي وكذلك الصادرات. ورغم أن كافة خططنا التنموية الخمسية قد نصت ودون استثناء على هدف تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني، إلا أن سياسات الدولة لم تكن جادة لتطبيق السياسات النفطية اللازمة للحد من التأثير السلبي للقطاع النفطي، مع الإقرار أنه لم يكن من السهل للحكومات المتعاقبة أن تصر على سياسات صعبة وغير شعبية ومكلفة في المدى القصير ولكنها ستؤدي إلى نتائج إيجابية على المدى المتوسط والطويل. لقد فضلت تلك الحكومات وبحسب - ديناميكية علاقات الدولة آنذاك – المضي في الممارسات المعتادة والسهلة من مدخل (ابتعد عن وجع الرأس) والاستمرار في الارتهان للعائدات النفطية التي تتفاوت صعوداً وهبوطاً وفق الأسواق العالمية، وبما لها من تأثيرات قاتلة على الاقتصاد الوطني. وقد ساهمت العائدات النفطية وتذبذباتها، وفي ظل ضعف السياسة الاقتصادية، في ظهور تحديات تلو التحديات واستمرار هشاشة الاقتصاد الوطني إلى يومنا هذا. والشاهد اليوم، ونحن لا نعرف بدقة كاملة حتى حجم المخزون النفطي المثبت، فإن تراجعه بصورة مستمرة لينخفض الإنتاج من أعلى مستواه والبالغ أقل من نصف مليون برميل/يوم في عام 2005 إلى حوالي ربع مليون برميل/يوم حالياً، ويتم استبعاد نصيب شركات النفط ليستهلك منه محلياً نصف حصة الحكومة وما تبقى من الباقي يتم تصديره إلى الخارج؛ وبالتالي قد لا يكفي هذا الاحتياطي في ظل معدل الاستهلاك الحالي لأكثر من عشر سنوات، إلا إذا ظهرت اكتشافات جديدة في مناطق لم تستكشف بعد، وهو أمل ما زلنا نعوّل عليه كثيراً. ومع ذلك، فالحكمة تقتضي التخطيط لهذه المسألة حتى لا نصل إلى اليوم الذي لا نملك فائضاً نصدره، بل وما أخشاه أن نضطر لاستيراد احتياجاتنا من المشتقات النفطية بالأسعار العالمية. إن هذا الأمر يستدعي الوقوف بجدية أمام مسألة التصدير اليوم مقابل الاستيراد في المستقبل القريب خاصة مع توقع استمرار ارتفاع أسعار النفط العالمية، فهل نقلص صادراتنا لإطالة عمر المخزون النفطي لاستهلاك الجيل القادم؟ هذا سؤال قد يستغربه الكثيرون ولكنه يحتاج إلى جواب علمي مدروس يعكس اهتمامنا بالأجيال القادمة وعدم التفرد والاستحواذ على الثروة الحالية وإن شحت. كذلك، نحتاج إلى وقفة جادة أمام دعم المشتقات النفطية والتي ما يزال الكثير من السياسيين والمثقفين وأيضاً العوام يكررون المطالبة بإعادة أسعار المشتقات النفطية إلى سابق عهدها أو في أفضل الأحوال إلى وضع متوسط بين ما كان عليه وسعر اليوم. وهنا أود أن أوضح ما قد يغيب عن كثيرين من أن المستفيد الأكبر من دعم المشتقات النفطية هم الميسورين وليس الفقراء أو محدودي الدخل كما قد يعتقد البعض. فاستهلاك الأسرة الميسورة للمشتقات النفطية أضعاف ما قد تستهلكه الأسرة الفقير وبالتالي أغلب الدعم باعتباره عاماً ولا يستهدف الفقراء ومحدودي الدخل يذهب لتلك الفئة الميسورة، فضلاً عن السلبيات الأخرى المتمثلة بالتهريب وصفقات الفساد المرتبطة بحصص المعسكرات ومحطات توليد الكهرباء أو احتياجات شركات النفط التي يتم شراؤها من السوق السوداء وغيرها. إن المتضرر الرئيسي من وجود برامج دعم للجميع هي الشرائح الفقيرة لأن تلك البرامج والمخصصات كان ينبغي أن توجه نحوها وتستهدفها في مجالات عديدة للحماية الاجتماعية ابتداءً بتوفير خدمات التعليم الأساسي والرعاية الصحية الأولية مجاناً وانتقالاً إلى ضمان الحد الأدنى للإعاشة من خلال صندوق الرعاية الاجتماعية وانتهاءً بالاستثمار في الإسكان البسيط وتوفير تعويضات محدودة للعاطلين، فضلاً عن التوسع في برامج التدريب والإقراض الصغير. لذلك، أعود إلى ما سبق وكتبت عنه في أكثر من مناسبة ومنذ حوالي سنة وتحديداً أثناء شدة أزمة المشتقات النفطية التي عشناها وأدت إلى طوابير امتدت مئات الأمتار وفرضت أسعاراً مضاعفة في السوق السوداء. لقد أدت تلك الأزمة إلى تقبل المستهلكين للسعر الجديد والبالغ 3500 ريال لدبة البنزين، رغم الادعاء بأنه ممتاز "خالي من الرصاص"، طالما واستمر توفره. ومع ذلك، لم تمتلك الحكومة السابقة الشجاعة لوضع الحقائق أمام الناس وتستفيد من الفرصة التي قدمت لها، حيث عجزت الحكومات السابقة لها عن اتخاذ قرار اقتصادي وسياسي في ذلك الاتجاه خوفاً من تبعات الاحتجاجات والمظاهرات كتلك التي شهدناها في عام 2005 إثر الرفع الجزئي للدعم وتأثيره المباشر على أسعار السلع والخدمات. أما وقد تجاوزنا ذلك وارتفعت أسعار السلع والخدمات وتحددت في ضوء السعر الحالي للمشتقات، ولا يمكن عودتها إلى ما كانت عليه حتى لو تراجعت أسعار المشتقات نتيجة هيكل السوق اليمني الاحتكاري، فإنه وفي ظل تهيئ الظروف والتقبل العام للوضع وإزالة الدعم (وإن لم يكن كلياً) مقارنة بسعر عالمي لبرميل النفط يبلغ 125$، فإنه لا ينبغي بأي حال التراجع ويجب على الحكومة أن تبادر وبسرعة إلى توحيد أسعار المشتقات النفطية عند سعرها الأعلى، مع وضع آلية لتحريك الأسعار هبوطاً وصعوداً مع تغير أسعارها عالمياً. ويمكن لتلك الآلية أن تضع معادلة خاصة لدعم جزئي للغاز المنزلي وعند مستوى أعلى من سعره المدعوم الحالي 1500 ريال لارتباطه أكثر بمعيشة الفقراء وأيضاً للمحافظة على البيئة من الاحتطاب، مع العمل على تسريع استكمال الوحدة الخامسة للغاز المنزلي وربما أيضاً السادسة لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتجنب استيراد تلك المادة الهامة. ولا ننسى أن نؤكد مرة أخرى أن جُل وفر الدعم يجب أن يتوجه وبشكل مدروس وواضح لتعزيز شبكة الأمان والحماية الاجتماعية للفقراء ومحدودي الدخل، ما لم فلن يلق رفع الدعم قبولاً مجتمعياً. كذلك، يجب أن يترافق ذلك مع اتخاذ قرارات عملية للتحول من استخدام الديزل سواء ً في محطات توليد الكهرباء أو في المنشآت الصناعية والخدمية أو حتى في وسائل النقل إلى مادة الغاز والعمل على توفير تلك المادة من مصادر محلية أو الاستيراد ما دامت أسعارها أقل بكثير من الديزل فضلاً عن محدودية تأثيراتها السلبية على البيئة. وأخيراً، لقد ملّ الناس وتعبوا من الحكومات السابقة المتعاقبة والتي لم تملك سلطة اتخاذ القرار، فهل نأمل من حكومة الوفاق – رغم المآخذ عليها – أن تنظر إلى هذا الموضوع كأولوية والبت فيه الآن بدلاً من تركه ليزداد تعقيداً. اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.