قد يستغرب البعض لإقحامي ملف تهريب المشروبات الكحولية بتحرير العقل من الأفكار والمفاهيم التعسفية والاستبدادية، لكن هذا المستغرب لم يكلف نفسه التوقف عند الأرقام المالية التي تذهب إلى أرصدة مجموعة من أكثر الناس تخلفاً وتبلداً ذهنياً، بينما تتردى ذهنية الأغلبية الساحقة؛ بسبب ليس فقط عدم شمولية التعليم جغرافياً بل لرداءة المنهج الدراسي وتدني مستوى المدرسين الذين لا يتلقون التدريبات اللازمة وانتشار الأمية التي وصلت إلى 85% وسيادة الجملة الغيبية أو الأيديولوجية الدينية التي يسوقها ويستفيد منها مالياً ووجاهياً فقهاء الجريمة الانتهازيون. وبهذا الملف أستطيع القول: إن العقل النخبوي - وهو هنا في هذه المنطقة - مستواه هابط جداً ورديء، ليس هو وحده في المساحة الاجتماعية، بل هناك ما يعرف بالعقل الأولي أو عقلية الفلاحين والشقاة الذين يشكلون الأغلبية، ولذلك كيف نستطيع الترقي وعلى ضفاف شواطئ تعز من باب المندب وحتى المخا يعيش سكان الوازعية والزريقة وموزع والمجزاع حياة بائسة اقتصادياً واجتماعياً؟. ولكي يبدأ مشروع تحرير العقل من الشوائب التاريخية وتأثير ثقافة فقهاء الجريمة الانتهازيين فإن ذلك يستدعي تقديم الخدمات الاجتماعية وفي الصدارة التعليم لسكان الشريط الساحلي لمنطقة تعز، وليس أي تعليم مما قد يبلد الذهن ويعطل القدرات بل تعليم عملي نهضوي يستطيع صناعة نخبة ثقافية وعلمية رفيعة المستوى، وليس حاملي درجات الدكتوراه والماجستير الفارغة من المضمون العلمي.. تحرير العقل؛ لكي يدرك الناس معرفياً متطلبات العصر الهائلة، أي واجباتهم تجاه ما يجري من داخل وجودهم الاجتماعي وفي محيطهم الإقليمي والعالمي ويتحولون من بهائم إلى فاعلين إيجابيين.. وهو الأمر الذي سوف يجعلهم يدركون شروط وجودهم وشروط النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي المفروض سيادته بينهم. ومن الضروري أن يكون المشروع جاداً للاندماج الإيجابي في عالمنا المعاصر، ولا ينبغي أن نتحول إلى حقل تجارب للسلع الغذائية والكمالية والمعرفية المستوردة من الخارج، وأن الاطلاع على أسس الدولة الرأسمالية أو شبه الرأسمالية أو الدولة الانتقالية يبدأ من تحرير العقل المتريّف، العقل المتبدْوِن، العقل المتقبْيِل، وينتهي بالخيارات المستقلة للتجمعات البشرية بدون إكراه وتعسف. وهذه فرصة سانحة تقدمها المعرفة المعاصرة - بكل فروعها الذهنية - لشيوخ القطاع السياسي الذين يفرضون طوقاً حديدياً على عقلياتهم وتحركاتهم ويفرضون على ذهنياتهم كسلاً مدمراً عليهم وعلى غيرهم؛ من أجل تحرير منظوماتهم الذهنية خاصة أبناءهم الذين تلقوا ويتلقون تعليماً منتظماً بهدف تبني مشروع سيادة الثقافة العلمية، ومن ثم التوصل إلى قرارات صائبة فيما يتعلق بانسلاخهم عن ماضيهم الإقطاعي الذي يقدمهم كلصوص وقطاع طرق ومجرمين سيئي السمعة. إن عصر التنوير في أوروبا كان يرمز إلى المرحلة الانتقالية، المرحلة التجارية “المرتكالية” بين الإقطاع الزراعي البطريركي وبين الرأسمالية العنيدة، ولعبت حركة التنوير دوراً بارزاً في دفع بعض عتاولة الإقطاع إلى استثمار أموالهم المكدسة في الأعمال التجارية، ومن ثم في الصناعات المانيفكتورية، وهكذا صاحبت الحركة وتفاعلت وتأثرت مع النمو المتصاعد لنجم الرأسمالية. وحريٌ بشيوخ الإقطاع السياسي في اليمن الذي لا يعيشون في عصر الإقطاع الزراعي البطريركي القديم أن يبادروا إلى تحرير عقولهم التي ترتدي أجسادهم الملابس الباذخة، ويتعطروا بأغلى العطورات الباريسية، ويركبوا مع أسرهم أحدث موديلات السيارات، ويركبوا درجة أولى في الطائرات، ويسبحوا في أرقى الجزر السياحية، ويؤسسوا مجتمعاً لنظام رأسمالي.. إنه عصر الثقافة العلمية، عصر المعرفة المعمقة. ثالثاً: المباشرة الفعلية بإعداد وثيقة سياسية توافقية تتضمن مشروع الدولة المركبة: الدولة الاتحادية، بدون الاختباء وراء المفردات الفضفاضة المخادعة، تحدد فيها طبيعة النظام السياسي بوصفه نظاماً اتحادياً برلمانياً ديمقراطياً بعد إجراء مفاوضات سياسية مع الطبقة السياسية الجنوبية التي وضعتها حرب 1994م والفكر السياسي الاستحواذي والإقصائي للطغمة العسقبلية في هامش السياسة ودفعتها قسراً نحو دائرة رفع شعار فك الارتباط، والذي لم يكن وارداً في أجندة هذه الطبقة التي تبنت حركتها السياسية تحت قيادة اتحاد النقابات منتصف الخمسينيات أدبيات الوحدة، ورفعت شعاراتها الأحزاب والتنظيمات السياسية بدون استثناء، إضافة إلى ارتباط حرب التحرير بجبهتيها: الجبهة القومية وجبهة التحرير ارتباطاً عضوياً بالعملية السياسية فيما كان يعرف الجمهورية العربية اليمنية، وإن طرح مشروع الدولة المركبة بنظام اقتصادي رأسمالي خيار جبري.