ليس بمقدور الحكومة اليمنية الجديدة أن توفر لأبنا محافظة أبين الحد الأدنى مما كان يوفره أنصار الشريعة لهم، حينما كانوا مسيطرين على المحافظة، وليس بمقدورها معالجة إخفاقها في هذا الجانب إعلاميا، مع من عاشوا الوضع واقعا طوال أكثر من عام. ومن هنا يمكن القول إن خروج أنصار الشريعة من محافظة أبين، ومرور شهرين على خروجهم دون أن تقدم الحكومة شيئا يُذكر لأبناء المحافظة، سيصب دعائيا في صالح أنصار الشريعة وسيخدم أية عودة متوقعة لهم، لأنهم بنموذج إدارتهم للمحافظة وضعوا الحكومة تحت رحمة مقارنة لا تُحسد عليها. ومؤخرا تحدثت كثير من التقارير عن وجود امتعاض واضح في أوساط أبناء محافظة أبين يدفعهم في الغالب إلى المطالبة بعودة أنصار الشريعة، بعد أن دخلت محافظتهم في فوضى غير مسبوقة، حيث عادت أعمال السرقة والتقطع بشكل أسوأ مما كانت عليه قبل سيطرة أنصار الشريعة عليها. وقبل سيطرة أنصا الشريعة على المحافظة كانت أعمال السرقة والقتل والنهب والتقطع أبرز ما يميزها، إلى درجة أن المتقطعين في طريق مديرية المحفد العام كانوا يجردون النساء من الذهب في آذانهن. لكن كل هذا انتهى بعد نشر دوريات على امتداد الخط العام، وبعد إقامة حد السرقة مرة واحدة. غير أن وسائل الإعلام ومتعهدي أعمال الدعاية في الحرب على "الإرهاب" لم يركزوا على الجانب الإيجابي في عملية القطع، خصوصا في محافظة كانت تشهد أشكالا مختلفة من أعمال النهب والسرقة والتقطع، بل ركزوا فقط على وحشية القطع وعلى جرم تدخل القاطعين في مهام السلطة، متناسين أن السلطة بكافة مؤسساتها لم تكن موجودة أصلا، وإن وجدت لا تقوم بمسئولياتها، في محافظة أبين وفي غيرها. ورغم ذلك لم يكن أنصار الشريعة يطبقون هذا الحد بالصورة التي رسمها الإعلام في أذهان الناس، بل كانوا يحرصون على دراسة الظروف المتعلقة بكل حالة، إلى درجة أن عملية القطع تمت مرة أو مرتين طوال عام. وكان أنصا الشريعة يقولون "إذا سرق غير محتاج قطعنا يده، لكن إذا سرق محتاج سنقطع رأس أبي بصير الوحيشي أمير التنظيم، لأنه لم يوفر لمن تحت مسئوليته ما يمنعهم من السرقة. وبشكل عام فقد شهدت المحافظة حالة استقرار غير مسبوقة طوال عام من سيطرة أنصار الشريعة عليها، حين كانت معظم المحافظات اليمنية، ومن بينها العاصمة صنعاء، تعيش حالة بالغة السوء من الانفلات الأمني وغيره، رغم أن أنصار الشريعة كانوا يديرون حربا ضد أكثر من خصم إلى جانب إدارتهم لشئون المحافظة. وكانت مراكز شرطهم ولجانهم الأمنية والعسكرية ودورياتهم تقوم بواجبها على أكمل وجه، بالإضافة إلى النقاط الأمنية التي كانت موجودة "على امتداد الطرق العامة من مدينة جعار وشقرة والمحفد في محافظة أبين إلى قرن السوداء ومدينة عزان في محافظة شبوة المجاورة، والتي يُقدر طولها بالسيارة بست ساعات". وبما أني كنت الصحافي الوحيد الذي تجول في كل مناطق سيطرتهم، ووصل إلى حيث لا يمكن لأحد أن يصل، نظرا لخوف الصحافيين من دخول كثير من المناطق التي يتواجدون فيها، بسبب تصورهم الخاطئ لأنصار الشريعة، واعتقادهم بأن هؤلاء مجرد "بلطجية" وقتلة يعملون لحساب نظام صالح، كما كانت تروج لذلك وسائل إعلام المعارضة، فقد رأيتُ وعرفتُ ما لم ير أو يعرف غيري، حيث قضيت ما يقرب من خمسة أشهر بمناطقهم في ثمان زيارات. والوضع الذي عايشته هناك لم يسبق لي أن عايشت مثله في اليمن، قبل وبعد الثورة، وعلى مختلف الأصعدة. ويمكن القول إن ما حدث في محافظة أبين في ظل سيطرة أنصار الشريعة كان الحالة الوحيدة التي شعر فيها مواطنون يمنيون أنهم يعتمدون في مختلف شؤون حياتهم على خدمات السلطة الحاكمة، منذ قيام الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب عام 1990م. حيث كان المواطن اليمني، خصوصا في الشمال، يعتمد على نفسه في كل شيء، حتى في الحصول على حقه أو في مصادرة حقوق الآخرين، في ضل فساد قضائي لا يبدو أنه تغير حتى في مرحلة ما بعد الثورة. وعلى ذكر القضاء تجدر الإشارة هنا إلى أن محاكم أنصار الشريعة فصلت خلال شهر واحد فقط في مئات القضايا التي كانت عالقة في محاكم النظام منذ سنين، بعد أن كان أصحابها قد يئسوا منها أو نسوها. وإلى جانب سرعة البت في قضايا المواطنين التي تصل إليها، لم تكن تلك المحاكم تتقاضى فلسا واحدا مقابل ما تقوم به، وقد شجع هذا الأمر كثيرا من أبناء المناطق المجاورة، التي لم تكن تخضع لسيطرة أنصار الشريعة، على التحاكم في محاكمهم، بل كانوا يطالبون أنصار الشريعة بالقدوم إلى مناطقهم، بعد أن كانوا قلقين من توسعهم. ولأن الناس يعرفون تماما أن هذا الذي تحقق لهم لم يكن يحدث في ظل النظام السابق وقد لا يحدث في ظل النظام القادم، قالت امرأة لأحد أعيان منطقتها، بعد أن حرمها أقاربها من ميراثها: "أدرك لي أنصار الشريعة قبل أن يذهبوا فإنه لا يرد حقي إلا هم". ومع أن الحكومة اليمنية حاولت أن تولي محافظة أبين اهتماما خاصا منذ خروج أنصار الشريعة منها، إلا أن هذا الاهتمام لن يكون بمقدوره تقليص الفارق الكبير بين ما كان في ظل حكم أنصار الشريعة وبين ما هو كائن اليوم. ما يعني أن عودتهم إلى محافظة أبين قد تكون قضية أبناء المحافظة أكثر منها قضية أنصار الشريعة.