في العهد الناصريّ تحايلت مصر الرسميّة على مشاكلها ب «القضيّة». حازم صاغيّة فالتخلّص من السياسة والدستور والأحزاب والصحافة الحرّة هو ما وجد «علاجه» في صدّ العدوان الثلاثيّ ثم الوحدة مع سوريّة ومن بعدها حرب اليمن. وبعد عقد من «الانتصارات» ابتدأ ب1956، ورسم جمال عبد الناصر بطل العرب ومعبودهم، جاء كشف الحساب الموجع في هزيمة 1967 . أنور السادات حاول إخراج مصر من «القضيّة» ومن المآسي التي ترتّبت عليها. هكذا حاول إحلال «قضيّة» السلام والانفتاح الاقتصاديّ محلّ «قضيّة» عبد الناصر القوميّة العربيّة. لكنّ أموراً عدّة تضافرت لإفشال تلك المحاولة، في عدادها اصطدام «قضيّة» السادات بثقافة شعبيّة راسخة في ضدّيّتها وعزلتها، ونزق السادات ومزاجيّته وفائض الفرديّة فيه. وأهمّ من هذا أنّه لم يطوّر ثقافة دستوريّة وحديثة يغطّي بها «قضيّته» ويبرّرها، سيّما وأنّه، هو الآخر، امتداد ل «شرعيّة 23 يوليو 1952». هكذا ملأ «الرئيس المؤمن» هذا الفراغ بالدين وبالفتاوى كما ملأه، من ناحية أخرى، بالسفاسف والكيتش من كلّ نوع. حسني مبارك اختار «قضيّة» مؤدّاها ألاّ يكون عبد الناصر وألاّ يكون السادات بحيث يبقى «وسطاً»، علماً أنّه، هو أيضاً، امتداد ل «الشرعيّة» التي أرساها الرئيسان الراحلان. هكذا تقلّبت مصر، وتتقلّب، على استحالة في المعنى لا يمكن أن ينهض عليها إلاّ ضمور في الدور تفيد منه، حسب ما صار معروفاً جدّاً، تركيا وإيران وإسرائيل. في المقابل، تطرح المعارضة الراديكاليّة لعهد مبارك «برنامجاً» مفاده: عد إلى «قضيّة» عبد الناصر وزُجّ مصر في أتون تنجو معه من همومها ومن تراجعها. لكنّ «البرنامج» هذا، الذي يقول «كن بطلاً وانتحر»، لا يغري عاقلاً. فمصر إذا ما طبّقت «البرنامج» الانتحاريّ قد تجد نفسها في مواجهة عسكريّة مقبلة مع إسرائيل، لكنّها حتماً ستجد نفسها مقطوعة عن مصادر حياتها في السلم والمعونات وقناة السويس والنفط. لهذا نرى أن الجناح الأقوى في تلك المعارضة يترك السلطة والمجتمع يتداعيان من دون أن يتقدّم لتولّي المسؤوليّة. ذاك أن «الإخوان المسلمين» يريدون من مبارك أن يقود عمليّة الانتحار بنفسه، نائين بأنفسهم عن «الفضيلة» التي يدعون إليها ويعرفون أكلافها. وضع الأقباط المؤلم معطوفاً على رواج الفتاوى ومسألة التوريث ومضاعفات «حرب» كرة القدم والمناخ الثقافيّ السائد وبناء «الجدار الفولاذيّ» وتتمّاته، بل معطوفاً على كلّ شيء آخر يحصل في مصر وتتناقله الأخبار، يشير إلى ذاك التعفّن الناشئ عن تلك النظريّة الحاكمة منذ 1981: ألاّ يحذو القائد حذو عبد الناصر وألاّ يحذو حذو السادات. وهذا، بالطبع، لا يكفي أبداً، ولا يكفي أحداً. فهو لا ينجب قيادة ولا يحول دون توسّع رقعة الشلل في المجتمع كما في السلطة. وإذا صحّ أن «قضيّة» عبد الناصر مأساة، و «قضيّة» السادات تجنّبٌ للمأساة بالحيَل، فإن مصر المباركيّة تبقى بحاجة إلى قضيّة، وهذا ما لا يوفّره التعريف الذاتيّ الآخر، والضمنيّ هذه المرّة، والذي مفاده أن المباركيّة هي ال «لا إخوان»، لكنّها، في الوقت عينه، الأكثر إسلاماً (صائباً) من الإخوان!. والحاجةُ إلى مثل تلك القضيّة ملحّة أكثر ممّا في أيّ وقت سابق. والمقصود، هنا، إعادة إرساء الوطنيّة المصريّة على قاعدة حديثة تستبعد الفتوى من السياسة، كما تستبعد الدفاع عن وطنيّة مصر ومصالحها المشروعة إمّا بالأدوات الشوفينيّة الهائجة أو بالأدوات الدينيّة الموظّفة. وهو وحده ما يمهّد للمهمّة الأخرى التي لا تقلّ أهميّة، ومؤدّاها إرساء طور انتقاليّ نحو شرعيّة دستوريّة كاملة يختفي معها كلّ أثر ل23 يوليو وميراثها. من دون هذا، تبقى مصر هائمة على وجهها تبحث عن معنى، ناهيك عن دور. وهذا مؤلم لها وللجميع.