الوحدة مُعمدة بالدم ، سيقول ذلك الذين لا يريدون أن يتكدروا بما هو حاصل من شرخ اجتماعي في قلوب الناس، ولابد أن النازيين القُدامى طمأنوا أنفسهم بالطريقة ذاتها. إن 23 سنة من عمر الوحدة الاندماجية تُركت هكذا من دون وحدة حقيقية من دون أية ثقافة اندماجية مُصاحِبة. اترك صبياً في الشارع ليكبر، ثم تعال لتجلس إليه. ستكتشف سريعاً أنه كبر فارغاً!وكذلك هي الوحدة كبرت فارغة من الداخل! كبرت شوهاء ويوماً بعد يوم تزداد تشوهاً ونقيصة. المنتصر يستطيع دائماً أن يضع شروطه، بيد أن الذي انهزم في حرب صيف94م ليس الحزب الاشتراكي ، ولا تحالف حزبي المؤتمر الشعبي العام مع حزب التجمع اليمني للإصلاح هو الذي انتصر، بل القبيلة ولا سواها هي التي ظفرت بالنصر المؤزر يوم 7يوليو1994 ، وأما الذي انهزم فقد كان مجتمع المدينة بكامله؛حتى ذاك الموجود في داخل المؤتمر الحاكم نفسه! ولعله مناسب أن أعرج الآن على حادثة الاعتداء المشينة التي تعرض لها الرجل المدني د.حسن مكي، نائب رئيس الوزراء آنذاك من قبل الشيخ "عبدالعزيز الشائف" ومرافقيه. دموع"مكي" التي سالت قهراً يومها، لم تكن دموع عينيه فحسب، إنما هي دموع المدينة حين تبكي! هل جرب أحدكم وشاهد مدينة تبكي؟ إننا في اليمن الحديث ، في دولة المؤسسات والنظام والقانون ، أصحاب امتياز في ذلك ، حدث هذا بعد الحرب والانتصار طبعاً ، وقد صارت القبيلة هي السيد الأول في البلد. هل جرب أحدكم أيضاً أن يتذوق مرارة مدينة مسالمة شاهدها وهي تبكي؟ ثم وببساطة يتم تطبيبها قبلياً بثور هَجَر بليد أكل من علفها لما شبع، ليصير هو ذاته رداً لاعتبارها؟! بأعصاب باردة تمت معالجة الأمر.. ذبحوا لنائب رئيس الوزراء "مكي" الذي لا ينتمي إلى قبيلة لها نفوذ قوي في السلطة - كما غيره- ذبحوا له كام "ثور" هَجْر كاعتذار، وانتهى كل شيء. في وقت سابق من التاريخ تمردت صنعاءالمدينة - حيث وداعة الناس وعشقهم للحياة- على الإمام يحيى بن حميد الدين . وبسبب من ذلك جعلها نهباً للقبائل. لقد دخلوها يومذاك فاتحين . جعثوا ماجعثوا، ونهبوا مانهبوا، ثم أعادوا صنعاء إلى الحضيرة ، لكن وقد فقدت عافيتها كمدينة حَوْت كل فن . قليل هم الذين يعرفون عما جرى حقاً في صنعاء آنذاك، هؤلاء الذين يعرفون، يعرفون الكثير. والأغلبية –أنا منهم- لاتعرف شيئاً على الإطلاق. هذه المرة وباسم حماية الوحدة ، تكرر مايشبه ذات الأمر .. أولئك الذين ابتلعوا الشمال بعد اغتيال الشهيد (إبراهيم الحمدي)1977 م هم ذاتهم الذين ابتلعوا الجنوب بعد أن رقصت البنادق والجنابي منتصرة على درة مدن الدنيا (عدن) وأخواتها، الخمس يوم 7 يوليو 1995 .ومن يومها، يوم النصر العظيم (!) تم إدخال الناس في دائرة الذل اليومي. ناس الجنوب والشمال المتمدن معاً! وفي علم النفس تلك دُعابة ثقيلة دم وينقص فاعلوها الإحساس بها أو المعاناة بسببها ليعرفوا كم هي فعل مؤلم. يستطيع المرء عموما بواسطة القُبح أن يصل إلى أعلى السلطات، لكنه لن يصل عبرها إلى المجد. ويستطيع الملوحوِّن بالانفصال – في المقابل- أن يُشمِّتوا ب"الدحابشة" المفُرشين كباعة متجولين وأصحاب الدكاكين والمحلات الصغيرة، لكنهم لن يستطيعوا عبر ذلك أن يبلغوا درجاتٍ من الاحترام.