عندما ينتهي نظام فرَّط بفرض هيبة الدولة، على كل شبر منها وتساهل إزاء شوكة ميزان العدالة، حقوقياً واقتصادياً واجتماعياً.. إلخ.. فإنه ولاشك قد ترك لمن يرثه أو يخلفه تركة ثقيلة، عليه أن يرفعها مستعيناً بالنخبة.. وفي وقت قياسي وإلاّ تراكمت وسقطت فوق رأسه. وبعبارة أكثر وضوحاً نقول: إن أي نظام جديد ورث مشكلة تعترض أو تعيق العملية السلمية لبناء الدولة.. في أي مجال من المجالات، عليه أن يتخلص منها في أسرع وقت ممكن، منطلقاً من الوضوح الكامل لتحديد أهدافه وأولوياته، وفقاً لدوافع إمساكه بالقيادة، دونما مواربة أو مهادنة، وأن يجعل من التلاحم القيادي الجماهيري المنطلق من المصلحة العامة وخير السواد الأعظم أساس قوته في السير لتحقيق مبتغاه، مالم فإن المشكلة تجر غيرها ومزيداً من العراقيل والمحبطات التي لا يسهل تجاوزها بأي دعم ومساعدات وضغوطات خارجية.. وبما أن لنا في التاريخ عِبراً وشواهد، فلن نذهب بعيداً لا في المكان ولا في الزمان، ومن اليمن وتاريخنا القريب نستمد بعض الشواهد ومنها: بعد خروج الأتراك من اليمن عام 1918م بعد حروب توارثها الأئمة خاصة منذ عهد المطهر بن شرف الدين (263م) -المصنف عسكرياً بأول قائد حرب عصابات في العالم العربي- وجد الإمام يحيى حميد الدين أنه قد تسلم دولة كانت سلطتها محصورة على المدن وغائبة عن الريف القبلي، وأن القبائل القوية لا تعرف ولا تهاب شيئاً اسمه دولة أو حتى قضاءً رسمياً، وهذا ما أشاع عملية التقطع والنهب، والفوضى.. إلخ. ولبناء دولة تكون علامة فاصلة لمرحلة مضت ومرحلة جديدة، جعل همَّه الأول إيصال الدولة وهيبتها إلى حيث كانت غائبة وإخضاع القبيلة لسلطة الدولة، فأوكل كل هذه المهمة إلى ابنه أحمد، ليشرع بالأهم فالمهم، مبتدئاً بحربه مع الزرانيق ثم حاشد -رغم موالاتها لأبيه المنصور وقتالها في صفه- فحرب البيضاء ونهْم وغيرها، وجعل من إخضاع تلك القبائل القوية فزاعة أرعبت بقية القبائل وادخلتها تحت سلطة وهيبة الدولة، بعد أن أطلقوا على ابنه أحمد وقائد حملاته العسكرية ألقاباً مثل: (الباهوت) و(الجني) وهو من حكم اليمن اثنتي عشرة سنة بهيبة حروبه تلك، وما جعل القبيلة تخشاه، وتتطوع لإلقاء القبض على من عارضه أو ثار على مملكته، فتقتله إن قاوم أو تسلمه إليه كما حصل مع الشهيدين القردعي والثلايا.. وغيرهما.. وهكذا حسم الإمام يحيى وابنه أحمد ما ورثاه من الأتراك من غياب للدولة وسقوط هيبتها بعد حرب تحرير طويلة، وفي المدة الزمنية المطلوبة، ليستمر الحكم الحميدي أو المتوكلي إلى أن انهته ثورة ال26 من سبتمبر الخالدة. مثال آخر من جنوب الوطن، حيث ورثت ثورة ال14 من أكتوبر عبء وسلبيات تقسيم البلاد إلى سلطنات ومشيخات وإمارات بلغ عددها (22)، اتجهت الجبهة القومية منذ الأيام وليس الشهور الأولى لتوليها مقاليد الحكم نحو تذويب جميع الكيانات ال22 في كيان واحد هو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبسط سلطة الدولة وإحلال الأمن، وتحويل الولاء من الولاء للقبيلة إلى الولاء للدولة والتحكم في النعرات القبلية والقضاء على نزعات الثارات وأدخلت أقسام الشرطة إلى حيث تتطلب التجمعات السكانية رغم تباعدها وصغر حجمها.. وبهذا هيأت الجبهة القومية المناخ المناسب لبناء الدولة -وفق الفكر الذي تتبناه- متيحة المجال للنخبة لقيادة الجماهير على النهج الذي اختطته لحكمها، حتى كان أهم إنجاز للحزب الاشتراكي اليمني هو وضع اللبنة الأولى للوحدة اليمنية، وخلق ثقافة تقدمية وحدوية أفرزت الكثير من المؤسسات الثقافية الخلاقة.. نأتي إلى مثال آخر، هو حركة ال13 من يونيو التصحيحية بقيادة المقدم إبراهيم الحمدي، وما أقدم عليه منذ الأيام الأولى لتوليه زمام القيادة، مفصحاً وبجلاء عن أهداف حركته المتمثلة في إسقاط مراكز القوى والمتنفذين وإزاحة النفوذ القبلي والهيمنة المشائخية من أمام سلطة الدولة.. وتصحيح الاختلالات المالية والإدارية وفرض الأمن والاستقرار القادر على تحقيق التنمية والاحتكام إلى القانون والتشريعات، وإزالة ما يشوب المواطنة المتساوية، وإمتلاك اليمن لقرارها السيادي. وبهذا الوضوح والعمل الميداني لتحقيق الأهداف المُعلنة، التف حوله الشارع، وحاصر المعرقلين والمتضررين من توجهه بالشارع قبل قوة السلاح، ولهذا كثيراً ما شاهدناه على سيارته الخاصة وحيداً بلا مرافقين ولم تشهد مدننا كبيرها وصغيرها من المظاهر المسلحة والمرافقين والحراسات الخاصة ما يوحي باختلال الأمن وغياب الدولة.. نعود إلى واقعنا اليوم وواقعنا المعاش مع نظام جديد وانتقالية لوضع أجد.. فنجد أن من أولويات المرحلة، معالجة عاجلة وأخرى آجلة لقضايا كبيرة وهامة كالوضع في المحافظات الجنوبية وفي (صعدة) والوضع الأمني في جميع أنحاء الجمهورية، والتعامل السريع الجاد مع كل ما يؤدي إلى التقطعات والتفجيرات، والاعتداء على خطوط الطاقة والكهرباء وتحديد البداية السليمة لبناء اقتصادي مُشجع لجلب رؤوس الأموال, استناداً إلى دولةٍ حددت ماذا تريد، دونما حاجة إلى وسطاء وشركاء وحماة من أي نوع. أمور يعرفها الساسة والضليعون في قيادة وبناء الدولة، تستدعي التعامل معها بجدية ووضوح يؤدي إلى التلاحم الجماهيري القيادي ويحسس الناس بإحداث نقلة جديدة، حتى لا يتداخل القديم بالجديد ويصبح القديم فقاسة لمعيقات جديدة وحاضنةً لما يتوالد منها، وهذا ما يذكرنا بالمثل الشعبي (الذي لا يأتي مع العروس لا يأتي بعدها)، بمعنى أن مالا يأتي بكل وضوح وجدية مع بداية العهد الجديد لأي نظام لن يتحقق إذا ما ترك بدافع التساهل أو التكتيك المرحلي، بل إن البداية المتساهلة لأي نظام قد تحمل معها عوامل الشيخوخة المبكرة إن لم نقل النهاية المبكرة، بالكساح المصاحب للولادة.