صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    "سبحان الله".. جمل غريب ب"رقبة صغيرة" يثير تفاعلا في السعودية    "مساومة جريئة تُفاجئ الحوثيين: نجل قاضٍ يُقدّم عرضًا مثيرًا للجدل للإفراج عن والده"    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    المهرة: شجاعة لا مثيل لها.. رجال الإنقاذ يخوضون معركة ضد السيول ينقذون خلالها حياة مواطن    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    خطوات هامة نحو تغيير المعادلة في سهل وساحل تهامة في سبيل الاستقلال!!    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    الإنذار المبكر بحضرموت يطلق تحذيرا هاما للساعات القادمة    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل تعي الثورات السلمية مبادئ اللاعنف
نشر في براقش نت يوم 23 - 01 - 2013


التمهيد والخاتمة:

يقول غاندي "ان الأساليب المتبعة قي سبيل تحقيق الهدف ليست خارجية عن نطاق التقييم الأخلاقي ولكنها على العكس من ذلك مكون من مكوناته الأساسية. وعليه فان كل خطوة في اتجاه تحقيق الغاية المرجوة تطبع الغاية بطابعها ان خيرا اوشرا، وبعبارة أخرى لا يمكن فصل الوسائل عن الغايات، ولذلك ينبغي الحرص على ألا تشوه الوسيلة الغاية او تدمرها". ومن هنا يرى غاندي أن الكفاح في سبيل إقامة مجتمع عادل لا يمكن أن يتم باتباع وسائل غير عادلة.

ويخلص غاندي الى أنه طالما كانت وسيلتا العقلانية والحوار من جهة واستخدام العنف من جهة أخرى غير كافية ويشوبها البطلان بعمق فإننا نحتاج إلى وسيلة جديدة هي معاناة القمع خلال الاحتجاجات والعصيان المدني. وهذه الوسيلة توقظ الروح وتفعلها، وتحشد طاقتها الكامنة، ومن ثم تولد نوعا جديدا من القوة الروحية التي لم تأخد المكانة التي تستحقها في عالم السياسة.

وينبغي لهذا الأسلوب الجديد أن يهدف الى ايقاظ وفتح عقل الخصم وقلبه بحيث يمكن للحوار العقلاني بفضل هذا الاسلوب أن يجري في مناخ من حسن النية والتأمل النقدي للذات. وقد فكر غاندي بأن أسلوبه الخاص باللاعنف (ساتياجراها) كفيل بتحقيق ذلك.

ويقوم مفهومه الخاص باللاعنف على الإصرار والصلابة في السعي نحو الحقيقة، بحيث يتم اختراق حواجز التحيز، وسوء النية، والإصرارعلى الافكار الثابتة (الدوغما) والتي تتردد عندنا تحت اسم الثوابت، والقول بان ذواتنا لا يأتيها الباطل، والأنانية، ومن ثم الوصول الى روح الخصم وايقاظها.

فمهما بلغ سوء الشخص ودوغمائيته فإن لديه روحا ومن ثم يمتلك القدرة على الشعور بالبشر الآخرين والاعتراف بالطبيعة الانسانية التي يشترك فيها معهم. ولذلك فانه يمكن القول بأن الساتياجراها عبارة عن جراحة روحية وطريقة لايقاظ القوى الروحية.

وقد اعتبر غاندي "المعاناة المحبة" أفضل طريقة لتحقيقها، وهذه المعاناة المحبة شكلت أساس طريقته الملهمة الجديدة. وقد شرحها بقوله: "لقد توصلت الى خلاصة أساسية هي أن الانسان اذا أراد تحقيق مايرى أنه في غاية الاهمية فان عليه الا يكتفي باقناع العقول وحدها فحسب بل ان عليه تحريك القلوب أيضا. ان مناشدة العقل موجهة الى الرأس أما تحريك القلب فيتم عن طريق المعاناة. إنها تفتح التفهم العميق في الانسان. فالمعاناة هي الخصيصة المميزة للجنس البشري وليس السيف.



مصدر مبدأ اللاعنف:
استمد الزعيم الهندي الكبير غاندي مبدأ اللاعنف من الجانية. والجانية ديانة هندية يدين بها حوالي أربعة ملايين هندي.، منتشرون في ولايات راجستان، وجوجرات، وأجزاء من ولاية مومباي، وفي ولاية كارناتاكا (ميسور)، إضافة إلى المدن الكبرى في شبه القارة الهندية. وعلى الرغم من قلة عدد الجانيين بالنسبة لعدد سكان الهند، فإن لهم تأثيراً كبيراً على المجتمع الهندي يفوق نسبتهم العددية، نظراً لأن معظمهم يعملون في التجارة ويمتلكون أنشطة اقتصادية مهمة، ويشبهون الحضارم في هذه الناحية على الاقل.
ويعتقد الجانيون: أن نشاط العقل والكلام والنشاط البدني تولدّ نوعاً من( الكارما ) أي الذنوب التي تسبب التعلق بالحياة. وأن على المرء أن يتجنب العنف حتى لا يؤذي أيّ كائن حي. ويعتبرون أن سبب الكارما هو سكنى الروح في الأجساد. وأن الخلاص الروحي (موكشا) يتطلب تحرير النفس من الكارما من خلال ممارسة الجواهر الثلاثة وهي: الإيمان الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والسلوك الصحيح.
وتلزم هذه الجواهر والمبادئ جميع الجانيين. إلا أن هناك فرقا في الواجبات الدينية لطبقات الرهبان ال(ياتيس)، فهؤلاء ينبغي عليهم الالتزام بخمسة واجبات كبيرة هي: رفض إلحاق الأذى (أهيمسا) ،والصدق (ساتيا)، ورفض السرقة (آستيا)، والتحفظ الجنسي (براهما كارثا)، والامتناع عن قبول هدايا غير ضرورية أو كبيرة القيمة (أياري جراها). ليت حكامنا اللصوص وعلماءنا يلتزمون بذلك.

ويقوم الجانيون: بممارسات متطرفة في سبيل تجنب إلحاق الأذى بالكائنات الحية. فهناك منهم من يضع قماشاً على فمه حتى لا تتضرر حشرة بالدخول في فمه. كما يحملون فراشي لينة لتنظيف أي مكان يهمون بالجلوس عليه، حتى لا يلحقوا أذى بأي كائن حي قد يكون موجوداً في المكان.

يقول البروفسور رامجي سنج: "الجانية ظاهرة مهمة في التاريخ الديني للبشرية . انها معروفة جيدا باعتبارها نظاما فلسفدينيا مهما غير براهمي يمثل الرسالية الروحية لثقافة تبشيرية تمتاز بافتراقها الكبير عن التقاليد الفيدية السائدة في الهند. ان جملة البنية الضخمة للجانية تقوم على مبدأ واحد يقول إن « الحياة عزيزة على الجميع» . هذا النزوع الى احترام الحياة يسمى اللاعنف ( اهمسا) أو الحب الإيجابي. ذلك هو المسيح. وذلك هو غاندي . إن الحب هو أساس الحياة والدين وهذا معبر عنه في « السعي الهادف إلى إزالة البؤس أو التخفيف منه » و « ضمان الرفاهية » للإنسان . وبعبارة أخرى فان الشخصية الانسانية هي الحقيقة العليا .
ولذلك فإن مجمل تركيز الجانية ينصب على قيمة وكرامة الإنسان و القداسة الضمنية “ في شخصيته والتي وحدها تستطيع “رفع البشرية إلى المستوى السامي للألوهيه”. إن أي نوع من الخضوع هو نفي تام لقيمة الشخصية وهو عمل لا أخلاقي بالنسبة لروحية التحقق الذاتي . ولذلك فإن الروحية الجانية هي خصم لكل أنواع القسر والتعصب سواء في الكلمة أو الفعل والتفكير . إن أي نوع من الإطلاق أو الهيمنة (الإمبريالية) في أي فكر هو معادٍ لروح الجانية.
وصف ( ياسو فيجايا) المنطقي الجاني العظيم في القرن الثامن عشر الميلادي، وجهة النظر الجانية بقوله “إن الجانيين لديهم موقف متعاطف تجاه كل الأديان تماما مثل الام التي تحب كل أطفالها على السواء”. ويذهب أحد فلاسفة الجانية المفكرين ( سيتد هازينا ديفاكارا) من القرن الخامس الميلادي، إلى ابعد من ذلك بتأكيده القائل “إن وجهات النظر المتعددة مجتمعة تتضمن مبدأ الجانية.” اما (انان داجانا) من القرن الثامن عشر وهو مفكر جاني آخر فانه يصف وهو في حالة صفاء روحي غير عادي الأنظمة الستة للفلسفة الهندية بأنها أشكال مختلفة من ذات الأم الإلهية العذب الرؤوم. ويبدو أن “الجانية قد حاولت التوفيق بين هذه الأنظمة الروحية المتعادية عن طريق توسيع الرؤية عبر ما يسمى "سياد فادا او انيكانتافاد"
انيكانتا فادا او مبدأ تعددية الحقيقة هو مبدأ مفاده أن الحقيقة نسبية لدى كل وجهات النظر.
ان طبيعة الحقيقة معقدة جدا. ولها خصائص وسمات لا تحصى. ولكن هناك حدودا للمعرفة البشرية ، وان الحقيقة انما تعطى لنا في وجهات نظر جزئية متعددة . ولا يعتبر اتباع واحدة منها انكاراً لأخرى. فلا احد يستطيع امتلاك الحقيقة. ان الاحتكار في مملكة الحقيقة والمعرفة هو أمر مستحيل إلا لمن هو كلي المعرفة. وما ذكرناه هو سمة نمطية للسلوك الجاني الرافض للإطلاق ويمثل الأساس الميتافيزيقي لمبدأ اللاعنف في التفكير.
ان كل الحيرة الفكرية التي تسود العالم إنما هي نتيجة لغياب البحث المتصف بالشمول، و نتيجة للقبول بجزء من الكل . وغالبا ما تكون كل خلافاتنا مجرد تكرار لضلال العميان الذين تحدث كل منهم بشكل مختلف عن نفس الفيل الذي أتيحت لهم رؤيته للحظة واحدة فقط. ولذلك فنحن نرى ان الحقيقة ليست حكرا على أحد. ويطلب منا هكسلي ان نقنع الناس بأن كل مقدس مهما كان نبله الظاهر فإنه في الحقيقة ليس إلا غولا يلتهم عابديه. وبعبارة أخري إن من المميت التعامل مع النسبي ومع الفكرة الخاصة المصنوعة في المنزل كما لو كانت هي المطلق.
كل دوغما « يعود فضل تكونها إلى هذه الجزئية في النظر وهذا الولع بخط التفكير الذي عود الشخص نفسه عليه». وتقول (مدام بلايفيسكي ) « عندما تقوم جماعة أو أخري باعتبار نفسها المالكة الوحيدة للحقيقة المطلقة فإن من الطبيعي إن تتصرف مثل ذلك الشخص الذي ينظر إلى جيرانه باعتبارهم خاطئين وشياطين» ولذلك وطالما ان النظرية والتجربة متداخلتان فان الجانية على حق فيما قدمته من أساس نظري لازم للعقيدة العملية الخاصة باللاعنف . إن الانكانتا فادا أو مبدأ تعددية اوجه الحقيقة هو امتداد للاعنف ( الاهمسا) في نطاق الفكر." (انظر كتابي " نصوص من حكمة الشرق" في الانترنت ).

مبدأ اللاعنف في السياسة:

تدفعني تجربة الثورات السلمية العظيمة التي تجري في اكثر من بلد الى تأمل تجربة المهاتما موهنداس كارامشاند غاندي، أعظم من مارس المقاومة السلمية مستخدما مزيجا فريدا من الضغط السياسي والروحي لتحقيق أهداف إنسانية باسلوبه اللاعنفي الذي أسماه "ساتياجراها" وهي كلمة سنسيكريتية تعني الصدق والثبات الحازم.

في خضم مشكلة احتلال ايريتريا لجزر حنيش اليمنية، أجرى مذيع قناة الجزيرة سامي حداد مقابلة مع الرئيس اليمني علي صالح تباهى فيها الاخير بالحكمة اليمانية التي أدت الى تجنب الحرب مع اريتريا باللجوء الى التحكيم الدولي لحل النزاع، وهنا باغته الاعلامي البارع بسؤال محرج استفسر فيه عن اسباب غياب الحكمة اليمانية عن الخلاف مع شركاء الوحدة من أبناء الوطن في الجنوب، الذين شن الرئيس عليهم الحرب الظالمة عام 1994، فكأنما ألقمه حجرا.

يرى غاندي ان العنف ينكر الحقائق الوجودية الأساسية (ان لكل الناس أرواحا، وانهم يمتلكون قدرة خلقيه على تقدير قيمة الخير والسعي في سبيله، وأن لا أحد يبلغ من الانحطاط حدا لا يمكن معه كسبه وتغييره عن طريق مخاطبة مشاعره الأخوية وانسانيته.

وأن من طبائع الامور ان الناس يختلفون، مخلصين، حول ما هو صحيح وما هو خاطئ، ذلك انهم ينظرون الى الحقيقة من زوايا مختلفة، وأن كل معارفهم مشوبة بالخطأ وقابلة للتصحيح.

وأن انكار الحقائق الوجودية الاساسية يحدث بغرض تبرير تلك الخطوات والاجراءات المتطرفة المؤدية الى ممارسة الايذاء والقتل. وهي ممارسات يظن مرتكبها ان موقفه صحيح صحة مطلقة، وان الضحية الخصم مخطئ بصورة كلية، وان العنف سيحقق النتائج المرجوة بكل تأكيد.

ولما كانت نتائج العنف غير عكوسة بمعنى ان النفس التي ازهقت أو الاجساد التي شوهت لا يمكن احياؤها او اعادتها الى حالتها الاولى بسهولة. فان الافعال غير العكوسة تتطلب لتبريرها معرفة سامية لا اخطاء اوثغرات فيها وتلك معرفة اعلى من متناول البشر.

ولذلك فاننا كمسلمين نجد لزاما علينا أن نستمد احكامنا المتعلقة بالعقاب والقصاص من التشريع الالهي، ولكن وفقا لقراءة تقية لهذا التشريع، لا نصيب فيها للهوى والتحيز والحقد والكراهية، أوتجاهل ظروف المرتكبين والدوافع التي تقف وراء أفعالهم، وهو ما يفعله القضاء الحديث في الدول المتقدمة من حيث التأني والبحث المستفيض واتاحة مساحة واسعة للدفاع الذي يؤازر المتهم في محنته، ويتقصي الظروف المخففة للأحكام الى ابعد مدى سائغ.

وبطبيعة الحال فإن تلك الفتاوى الهابطة والخاطئة التي بررت الحرب على الجنوب أولا وسوغت قتل أهله، ثم الحرب على صعدة تاليا لا علاقة لها بالتقوى وعدم اتباع الهوى، بل كانت مجرد صورة أخرى من صور تحريف الكلم عن مواضعه لتبرير أحط الارتكابات والموبقات نصرة لسلطة ظالمة غاشمة، (يشرون بعهد الله وآياته ثمنا قليلا).

رفض غاندي العنف على اسس أخلاقية . ذلك أن الالتزام الاخلاقي يتضمن قيام المرء بعمل يعتقد صحته لانه يرى انه حق، ويتطلب ذلك تطابقا بين العقيدة والسلوك. واذا كان استعمال العنف من قبل الاقوى لم يغير فهم الخصم لما هوحق فانه لن يفعل شيئا غير اجباره على اتباع سبيل التقية او النفاق بطريقة تخالف الفطرة الفردية الخاصة بكل انسان (سوابهافا)، وتخالف المعتقدات التي يتمسك بها باخلاص، الامر الذي ينتهك نزاهته الاخلاقية، أي أنه يجعله مصابا بالحالة التي يسميها الفلاسفة "الضمير الشقي".

وهذا بالضبط ما حدث لمواطنينا في المحافظات الجنوبية والشرقية من الموظفين مع الدولة، أو أولئك الذين لهم مصالح يرتبط إنجازها بالدولة وبرضاها بشكل أو آخر، في دولة تتجاوز القانون وتنتهك حقوق مواطنيها دون أن يرف لها جفن في غياب الضمانات التي يوفرها قضاء مستقل لا وجود له في بلادنا.

وبالاضافة الى ذلك يقدم غاندي حجة مفادها أن العنف نادرا ما حقق نتائج لها صفة الدوام. ويعتبر الناس نتائج استعمال العنف ويحكمون بنجاحة عندما يحقق الاهداف الآنية لمن يستعمله. مع ان الاصوب الحكم عليه من خلال نتائجه البعيدة المدى، وهو ما يؤدي الى اختلاف جذري في الحكم.

لقد أدى كل نجاح ظاهري لاستخدام العنف الى تشجيع الاعتقاد بأن العنف هو الوسيلة الوحيدة الفعالة للوصول الى الاهداف المرغوبة، وهو ما أدى الى اكتساب عادة استخدام العنف ضد اي معارضة. وبذلك اعتادت المجتمعات على اللجوء اليه وامتنعت عن استكشاف الوسائل البديلة، بل ودرجت على التفكير بأنها ليست مضطرة الى مجرد محاولة البحث عن بديل للعنف لحل النزاعات. مع ان استخدام العنف غالبا ما يخلق دوامة متصاعدة من العنف والعنف المضاد.

وعندما نتأمل اليوم في حرب 1994 التي شنتها الاوليجارشية الحاكمة على الجنوب ندرك الى اي حد كان غاندي حكيما فيما قاله. ولاشك اليوم ان تلك الحرب النزقة الظالمة تقف وراء الوضع الحالي في بلادنا وأن نجاحها الظاهري آنذاك لم يكن الا وهما وسرابا خادعا.

ويرى غاندي أن ثنائية الوسائل الغاية التي تكمن في قلب معظم نظريات العنف خاطئة. فالوسائل في حياة البشر لا تتألف من مجرد اجراءات وأجهزة ومعدات لا حياة فيها، بل تتألف من أفعال البشر، وبالتعريف فان هذه الأفعال لا يمكن اعتبارها خارجة عن نطاق مجال الأخلاق.

وبالاضافة الى ذلك فان الأساليب المتبعة قي سيبل تحقيق الهدف ليست خارجية عن نطاق التقييم الأخلاقي ولكنها على العكس من ذلك مكون من مكوناته الأساسية. وعليه فان كل خطوة في اتجاه تحقيق الغاية المرجوة تطبع الغاية بطابعها ان خيرا اوشرا، وبعبارة أخرى لا يمكن فصل الوسائل عن الغايات، ولذلك ينبغي الحرص على ألا تشوه الوسيلة الغاية او تدمرها. ومن هنا يرى غاندي أن الكفاح في سبيل إقامة مجتمع عادل لا يمكن أن يتم باتباع وسائل غير عادلة.

قوة الروح:

ويخلص غاندي الى أنه طالما كانت وسيلتا العقلانية والحوار من جهة واستخدام العنف من جهة أخرى غير كافية ويشوبها البطلان بعمق فإننا نحتاج إلى وسيلة جديدة. وهذه الوسيلة توقظ الروح وتفعلها، وتحشد طاقتها الكامنة، ومن ثم تولد نوعا جديدا من القوة الروحية التي لم تأخد المكانة التي تستحقها في عالم السياسة.

وينبغي لهذا الأسلوب الجديد أن يهدف الى ايقاظ وفتح عقل الخصم وقلبه بحيث يمكن للحوار العقلاني أن يجري في مناخ من حسن النية والتأمل النقدي للذات. وقد فكر غاندي بأن أسلوبه الخاص باللاعنف (ساتياجراها) كفيل بتحقيق ذلك.

ويقوم مفهومه الخاص باللاعنف على الإصرار والصلابة في السعي نحو الحقيقة، بحيث يتم اختراق حواجز التحيز، وسوء النية، والإصرارعلى الافكار الثابتة (الدوغما) والتي تتردد عندنا تحت اسم الثوابت، والقول بان ذواتنا لا يأتيها الباطل، والأنانية، ومن ثم الوصول الى روح الخصم وايقاظها.

فمهما بلغ سوء الشخص ودوغمائيته فإن لديه روحا ومن ثم يمتلك القدرة على الشعور بالبشر الآخرين والاعتراف بالطبيعة الانسانية التي يشترك فيها معهم. ولذلك فانه يمكن القول بأن الساتياجراها عبارة عن جراحة روحية وطريقة لايقاظ القوى الروحية.

وقد اعتبر غاندي "المعاناة المحبة" أفضل طريقة لتحقيقها، وهذه المعاناة المحبة شكلت أساس طريقته الملهمة الجديدة. وقد شرحها بقوله: "لقد توصلت الى خلاصة أساسية هي أن الانسان اذا أراد تحقيق مايرى أنه في غاية الاهمية فان عليه الا يكتفي باقناع العقول وحدها فحسب بل ان عليه تحريك القلوب أيضا. ان مناشدة العقل موجهة الى الرأس أما تحريك القلب فيتم عن طريق المعاناة. إنها تفتح التفهم العميق في الانسان. فالمعاناة هي الخصيصة المميزة للجنس البشري وليس السيف."

وفي هذه الجزئية أرى شبها واضحا بين أسلوب ثورة الشعب الجنوبي السلمية من حيث تقبلها للمعاناة التي يمكن تشبيهها بفكرة غاندي عن "المعاناة المحبة". ان السلطة في بلداننا هم انصارها فمنهم تستمد قوتها التي تتجاوز قوة اجهزة قمعها.

ولئن لم تفلح معاناة الثوار في فتح قلوب الرؤساء فقد أفلحت في فتح قلوب أنصارهم المحليين والأجانب فساندوا قضية الثوار في ضرورة رحيلهم عن الحكم.

وقد كانت معاناة القتل الاعمى في تونس وغزوة الجمل في مصر ويوم الثامن عشر من مارس الرهيب في اليمن من اهم اسباب اتساع الثورات وعلو شأنها في بلدانها من خلال كسبها الواسع للانصار اثر تلك الاحداث خصما من رصيد الرؤساء. وقد أدى القمع الهمجي الفاضح في ليبيا الى استعداء النظام للعالم كله ودفعه الى مؤازرة الثوار في ليبيا بكل وسيلة ممكنة. ولكن الاتجاه الى العنف في ليبيا واليمن وسوريا اوقع ثوراتهم وبلادهم في ردات ومآزق لن يسهل الخروج منها في المستقبل المنظور

عندما يواجه الثائر السلمي (الساتياجراهي) الظلم فانه يسعى الى الحوار مع خصمه. وهو لايقوم بمواجهة خصمه بترديد دوغمائي مصرعلى عدالة مطالبه، لانه يدرك أنه قديكون متحيزا ومنحازا، ويدعو خصمه الى التعاون في البحث عن حقيقة الصدق في الأمر موضوع النزاع. ويقول غاندي في ذلك:"انني أساسا رجل تسويات لانني لست متأكدا أبدا من أنني على حق".

وعندما يواجه الثائر السلمي برفض الخصم للحوار أو عندما يبدأ حوارا يتحول الى مجردممارسة فارغة للعلاقات العامة فان الثائر السياجراهاتي يشرع في اتخاذ مواقف مبدئية أساسها العصيان المدني.

ومن ثم يشرع في تحمل المعاناة نتيجة اعمال العنف التي يستخدمها الخصم ضده لأنه يرى فيه عدوا ومشاغبا. ويرفض مقابلة العنف بالعنف لانه ينظر الى خصمه باعتباره اخا في الانسانية تعاني انسانيته من كسوف مؤقت ويرى أن من واجبه ايقاظها واستعادتها.

وبمجرد ان يظهر خصمه استعدادا للحوار بروح حقيقية من حسن النية فانه يعلق الاحتجاجات ويمنح العقل والمنطق فرصة للعمل في جو اكثر انفتاحا.

وهنا لا بد من القول أن خطوات اللقاء المشترك الحوارية كانت ساتياجراهية بامتياز، الا انني أعيب عليه كالكثيرين تثاقله وابطاءه الذي طال اكثر مما يجب بكثير في استخلاص عدم جدية السلطة في الحوار الى ان اخذ الشباب في تونس زمام المبادرة.

واكثر من ذلك علق اللقاء المشترك حواراته عبر لجان الحوار الوطني التي كان ينبغي ان يوجهها بعمق واتساع وتسارع نحو انصار الرئيس المتبقين، بدلا من حالة التخندق التي يمارسها مع شباب الثوره، فيكون عاملا فعالا ومساعدا في نجاح ثورتهم بدلا من منافستهم بشراسة على منصات ومكرفونات الساحات ولجانها الامنية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.