الوصفة السحرية لآلام أسفل الظهر    منظومات دفاع الكيان تقصف نفسها!    اليمن يستهدف عمق الكيان    تصنيف الأندية المشاركة بكأس العالم للأندية والعرب في المؤخرة    تعز.. مقتل وإصابة 15 شخصا بتفجير قنبلة يدوية في حفل زفاف    الأمم المتحدة:نقص الدعم يهدد بإغلاق مئات المنشآت الطبية في اليمن    دخول باكستان على الخط يسقط خيار الضربة النووية الإسرائيلية    علماء عرب ومسلمين اخترعوا اختراعات مفيدة للبشرية    بايرن ميونخ يحقق أكبر فوز في تاريخ كأس العالم للأندية    أرقام صادمة لحمى الضنك في الجنوب    الانتقالي ومعايير السيطرة في الجنوب    مستشار بوتين.. انفجار النهاية: إسرائيل تهدد بتفجير نووي شامل    التوقعات المصيرية للجنوب في ظل الحرب الإسرائيلية الإيرانية    للكبار فقط...    اغلاق السفارة الامريكية في اسرائيل وهجوم جديد على طهران وترامب يؤمل على التوصل لاتفاق مع إيران    خلال تفقده الانضباط الوظيفي في وزارتي النقل والأشغال العامة والنفط والمعادن    وزيرا الخارجية والصحة يلتقيان مبعوث برنامج الأغذية العالمي    الأمم المتحدة.. الحاضر الغائب!!    القبائل والحكومة والتاريخ في اليمن .. بول دريش جامعة أكسفورد «الأخيرة»    صحيفة امريكية تنشر تفاصيل عن عملية الموساد في إيران    مجلس الشيوخ الباكستاني يوافق بالإجماع على دعم إيران في مواجهة العدوان الصهيوني    الفريق السامعي: الوطنية الحقة تظهر وقت الشدة    عراقجي: امريكا واوربا تشجع عدوان اسرائيل والدبلوماسية لن تعود إلا بوقف العدوان    ثابتون وجاهزون لخيارات المواجهة    حصاد الولاء    مناسبة الولاية .. رسالة إيمانية واستراتيجية في مواجهة التحديات    العقيد العزب : صرف إكرامية عيد الأضحى ل400 أسرة شهيد ومفقود    إب.. إصابات وأضرار في إحدى المنازل جراء انفجار أسطوانة للغاز    مرض الفشل الكلوي (8)    من يومياتي في أمريكا .. صديقي الحرازي    تعيين غاتوزو مدرباً للمنتخب الإيطالي    الاطلاع على سير العمل في الوحدات التنفيذية التابعة لمصلحة الضرائب    الحلف والسلطة يخنقون الحضارم بقطع الكهرباء    شعب حضرموت يفسخ عقد الزريقي    نائب وزير الخدمة المدنية ومحافظ الضالع يتفقدان مستوى الانضباط الوظيفي في الضالع    رئيس الوزراء يوجه بسرعة إطلاق العلاوات للجامعات والتربية والتعليم والصحة    البكري يرأس اجتماعًا لوكلاء القطاعات العامة ويناقش إعداد خطة ال (100) يوم    وزيرا الخارجية والصحة يلتقيان مبعوث برنامج الأغذية العالمي    هيئة الآثار :التمثالين البرونزيين باقيان في المتحف الوطني    قوات الجيش تعلن إفشال محاولة تسلل شمال الجوف وتكبّد المليشيا خسائر كبيرة    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الأحد 15 يونيو/حزيران 2025    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    انهيار جزئي في منظومة كهرباء حضرموت ساحلا ووادي    أهدر جزائية.. الأهلي يكتفي بنقطة ميامي    اسبانيا تخطف فوزاً من رومانيا في يورو تحت 21 عاماً    اليغري كان ينتظر اتصال من انتر قبل التوقيع مع ميلان    صنعاء.. التربية والتعليم تحدد موعد العام الدراسي الجديد    حضرموت.. خفر السواحل ينقذ 7 أشخاص من الغرق ويواصل البحث عن شاب مفقود    بعد أيام من حادثة مماثلة.. وفاة 4 أشخاص إثر سقوطهم داخل بئر في إب    صنعاء تحيي يوم الولاية بمسيرات كبرى    - عضو مجلس الشورى جحاف يشكو من مناداته بالزبادي بدلا عن اسمه في قاعة الاعراس بصنعاء    سرقة مرحاض الحمام المصنوع من الذهب كلفته 6ملايين دولار    اغتيال الشخصية!    الأستاذ جسار مكاوي المحامي ينظم إلى مركز تراث عدن    قهوة نواة التمر.. فوائد طبية وغذائية غير محدودة    حينما تتثاءب الجغرافيا .. وتضحك القنابل بصوت منخفض!    الترجمة في زمن العولمة: جسر بين الثقافات أم أداة للهيمنة اللغوية؟    فشل المطاوعة في وزارة الأوقاف.. حجاج يتعهدون باللجوء للمحكمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لامشروعية العنف
نشر في 14 أكتوبر يوم 02 - 10 - 2012

تنامي العنف في الآونة الأخيرة في حضارة اقرأ ، ولجأ النهج النضالي إلى عسكرة وسائل المعارضة وتحولت الممانعة إلى ميليشيات تمارس التطهير العرقي والبلطجة واعتمدت الدول الرسمية الحل الأمني الأقصي في التعامل مع المعارضات الديمقراطية والاحتجاجات الاجتماعية واندلعت حمي المذهبية والحزبية والتقاتل الأهلي والتحارب الطائفي، وقد ترتب عن ذلك فتك بالأرواح البريئة وازهاق للأنفس المحايدة واعتداء على أبسط حقوق الانسان الأساسية وتعطيل عملية النهوض والتنمية وتسريع قابلية الاستعمار ونسق التدخل الأجنبي في السيادة القومية.
ربما يؤدي كل هذا الشر المتزايد بالحكمة العالية والعقل الرصين والتأمل الحصيف أن يفكر بجدية في المفاهيم المناقضة مثل اللاعنف والمقاومة الثقافية الاجتماعية والمعارضة السياسية القانونية والصفح والمصالحة وحضور الانسان المسالم في التاريخ احتراما لمصالح العقل العملية والغايات الجوهرية لنشاطه التأملي الكوني ويشرع لإمكانية الحديث عن دور النقاش وآداب المناظرة والحوار العقلاني من أجل ارساء هدنة وجودية وعقد حضاري واجماع مرجعياتي يضمن اعادة تملك واعية للذات تؤصل علاقتها مع الأغيار ومع الميراث وتدفع بها نحو صنع المستقبل مسلحة بقيم الحرية والابداع والديمقراطية الاندماجية والتشاركية الفعلية. ان الأمر الجلل عندنا هذه الأيام أن أزمة الهوية لدينا قد تحولت إلى حرب أهلية محلية ويمكن أن تتسبب في حرب عالمية جديدة بين حضارة اقرأ من جهة وامبراطوريات العولمة وتابعيهم من جهة أخرى وأن وجهة العالم بأسره سلبا وايجابا قد تتحدد في وطن الكينونة وعلي المسطح الذي جهزه العرب للتدبير والتعقل. فكيف نوقف هذه الحرب الأهلية المقيتة ونمنع معاودة ظهور الفتنة الكبرى على أراضينا؟ وكيف يمكن أن نؤهل الساكن الأصلي حتى يقدر على الاضطلاع برسالته الوجودية الكونية في الآتي القريب؟ أليست ساعة التسلح بالقلم والنقد والحقيقة قد حانت؟ ألا تكفينا الحروب التي خضناها والنزاعات التي مزقتنا والمهاترات التي زرعت فينا بذور الفتن والتشرذم؟ اذا كان العنف رذيلة وضعفا فهل يعني اللاعنف والمنزع السلمي فضيلة وقوة؟ لكن هل يكفي التسلح بالارادة الطيبة في الصراع السياسي للقضاء على الشر والظلم؟ ألا يوجد تباعد وغربة بين ما هو سياسي يرمز إلى القوة والسلطة وما هو أخلاقي يرمز إلى الواجب والحق؟ أي حضور للانسان المسالم في التاريخ؟ ما تفسير المنحي المرعب للارادة والخطر المتأتي من النية السليمة في عالم سييء؟ كيف يمتلك اللاعنف قدرة على الحضور والتأثير في حركة التاريخ أكثر من العمل العنيف ذاته؟ هل يعني تبني اللاعنف الارتكان نحو اللامقاومة؟ ان رهان البحث في هذه المسألة لا يرتبط بمسألة الفارمان العثماني أو اصدار القرارات، فالكتاب ليس لهم مثل تلك السلطة الميتاتاريخية بل الرهان يقف على أرض زمنية تعترف بلاعصمة الانسان وتناهيه وتكتفي بطرح الأسئلة والتنبيه على المخاطر والأزمات وانه لشرف أن يكون الكتاب أكثر الفئات وعيا بالأزمة والكارثة التي ستحل بالساكن الأصلي نتيجة اللجوء إلى العنف من قبل امبراطوريات العولمة في الخارج والدولة في الداخل. لكن لماذا تجد الدول نفسها مرغمة على الالتجاء إلى العنف؟
1 الدولة بين المشروعية والعنف:
الدولة تحدث بعدا جديدا من العنف الجماعي عندما تقيمه في حرب(2)
علامة يأس وانسداد أفق وينتهي الى تدمير الذات والانتحار: العنف ضعف واللاعنف قوة
تكشف الفلسفة عن مفارقة صارخة تهز عمل السياسي من جذوره تتمثل في المعادلة الصعبة التالية: الأذى الذي تسببه الأنظمة الحاكمة للشعوب لا يتغذى الا من العقلانية الصارمة التي تعتمدها هذه الأنظمة في حكمها لشعوبها وكلما ازدادت درجة العقلانية ازدادت درجة الأذى الذي يعاني منه المحكومون. هذا ما التقطته العين النقدية لبول ريكور في كتابه الحقيقة والتاريخ من مسرح الأحداث السياسية العالمية في زمانه. فهناك اغتراب ناتج عن السياسي لكونه حقلا تجد فيه السلطة كامل حريتها لتفعل ما تشاء بالخلق وحتي عندما نتحدث عن حرية ممارسة السلطة وغياب أجهزة المراقبة والمحاسبة وضعف محصنات الديمقراطية وانعدام المؤسسات التي تسهر على حماية العقد الاجتماعي فاننا نتحدث عن الشر والظلم والأذي التي يسببها السياسي للمجتمع. اذن كل دولة تحتاج من جهة رأسها إلى عقل يركز النظام ويسرع عجلة التنمية ولكن هذا العقل نفسه يتحول إلى معتقل وقوة تأديب وعقاب وبالتالي تخسر الدولة ما حققته من أرباح وتفوت فيما كانت قد أحرزته من تقدم. ألم يقل ماركس في نقده لهيغل أن: الدولة لم تعد تمثل العالم الحقيقي للانسان بل تحولت إلى عالم آخر، عالم غير واقعي، فهي لم تحل التناقضات الواقعية الا في حق وهمي أصبح هو بدوره في تناقض مع العلاقات الواقعية بين البشر... .
ان مشكل الدولة مزدوج ومعقد، فهي أكثر عقلانية من الفرد وأكثر انفعالية وتأثرا منه، تحتاج إلى القوة ولكن الافراط فيها يحولها إلى أداة قهر وتسلط وتحتاج إلى اللين والمرونة ولكن الاكتفاء بها قد يحولها إلى جهاز ضعيف وسلطة من ورق. كما أن مشكل الديمقراطية يتمثل في قدرة الشعب على مراقبة الدولة ولكن مشكل المراقبة هو نفسه غير قابل للتحديد والضبط، اذ ما هي الشرائح من الشعب التي لها مشروعية مراقبة أداء الدولة هل هم السياسيون المعارضون المتعطشون للاستيلاء على الحكم أم المثقفون الذين يخفون ضعفهم من خلال توهم الابداع ويسترزقون من موائد الحكام؟ هل هم نشطاء منظمات حقوق الانسان والكهنة الجدد للمجتمع المدني أم الفقهاء من أهل الحل والعقد الذين حولوا المرجعية إلى سلطة رجعية؟ ان الجمع بين الحق والقوة يمثل مشكلا بالنسبة لأي دولة وآية ذلك أن الحق دون قوة تصونه هو ضائع والقوة دون حق يراقبها هي سلطان غشوم. على هذا النحو يبرز مع نشأة الدولة بعض من العنف المشروع ويبدو أن الوجود السياسي للانسان يسهر عليه عنف مشروع هو عنف الدولة ودون ذلك لا يكون المواطن مواطنا له حقوق ضمن دولة تعرف على أنها جسم سياسي وجهاز حقوقي ينظم العلاقات بين الأفراد ويبني علاقات حسن جوار مع الدول الأخرى. بيد أن عنف الدولة لا يكون مشروعا الا اذا اتخذ طابعا جزائيا وحرص على ترسيخ العدل والانصاف في تطبيق القوانين ولا يكون ذلك ممكنا الا اذا منعت الدولة التجاء الأفراد والمجموعات والطوائف إلى العنف المنفرد لحل النزعات التي تحدث بينهم وتحتكر ذلك لنفسها وتعيد توزيعه في شكل قوانين وهيئات تضمن السلم الاجتماعي. من هذا المنطلق فان سلطة الدولة هي السلطة التي لا راد لقرارها وهي التي تجمع بين السلطة المادية للارغام والسلطة المعنوية لتحديد الواجب والمسؤولية. لكن من الذي يضمن أن كل الدول ستلتزم باستعمال الحد الأدنى من العنف المشروع؟ ألا يمكن أن يتحول العنف الذي يتخذ طابعا جزائيا عندما تستأثر الدولة بقوة الردع لنفسها وتتولي مهمة العقاب بشكل مباشر وقاس إلى عنف غير مشروع؟ ثم ألا يولد ذلك التوجه الخاطئ ردود أفعال عنيفة من قبل المجتمع وتنتشر ثقافة الحقد والضغينة وردود الأفعال غير المحسوبة؟ ألا تتحول هذه الدولة نفسها نتيجة استعمالها للعنف غير المشروع إلى دولة قاسية مستبدة؟
2 لامشروعية العنف:
الذهاب إلى الحرب يعني بالنسبة للفرد، في نفس الوقت، قتل الانسان الآخر، مواطن الدولة الأخري ووضع حياته في الميزان لكي يستمر وجود دولته (3).
يظهر العنف وكأنه البعد المحبذ الذي يتغير من خلاله شكل التاريخ فهو الايقاع الذي يتعدل به زمن البشر والبنية التي تتقوم بها أشكال الوعي، فالتاريخ برمته مسرح لتفجر قوة العنف وأي بحث عن اللاعنف والسلم والتعايش يظهر وكأنه وعي مقلوب بالتاريخ وسوء نية لأن الوعي بالتاريخ والوعي التاريخي والتاريخية كلها تؤكد حقيقة العنف الساطعة في صيرورة الأحداث الغابرة والسالفة والحاضرة والمتوقعة. فمعارضة الحكم الجائر ومقارعة الاستبداد ومقاومة المحتل والتصدي للغازي كلها حركات احتجاجية وأفعال رافضة شرعنت العنف الثوري واعتبرت اللجوء إلى القوة والسلاح أمرا مشروعا.
صحيح أن حركة التاريخ خاضعة لصراع الأضداد ولعبة التناقضات وأن ولادة الأحداث ولادة صعبة تنبجس عبر الهدم والتحطيم وأن التاريخ يصنعه الأموات أكثر من الأحياء، وصحيح أيضا أن الوعي شقي ومنزعج من ذاته على الدوام والحقيقة مأساوية ومزعجة وأن المعرفة الموضوعية هي فكرة باردة وقاسية وخالية من كل روح وحياة وأن الدفاع عن الدول والأمم لا يكون بالكلام وأن النبي المنتصر هو النبي المسلح ولكن علينا أن نحترز من كل هذا الكلام الآن، فالوضعية غير الوضعية والمقام غير المقام وينبغي ألا ننسي أن الفارابي كتب المدينة الفاضلة ليس لترجمة جمهورية أفلاطون فهذا من تحصيل حاصل بل من أجل بناء دستور وحدة حضارية زمن تشتت الخلافة العباسية وأن الماوردي لم يكتب الأحكام السلطانية ليكشف عن السياسات الدينية للدولة الاسلامية فهذا ثيوقراطية مقيتة بل ليشرع ضرورة التمييز بين السلطان الروحي والسلطان الزمني وبين مؤسسة الامارة ومؤسسة الوزارة، وذلك أمر حيوي من أجل تذرية السلطة ونقد تمركزها الهرمي وينبغي أن لا ننسي أن الرسول رفع السيف دفاعا عن النفس وهو كاره له ورد الفعل ضد معارضيه ولكنه أقل ردود الفعل دموية في التاريخ خاصة بعد مآخاته بين المهاجرين والأنصار وايقافه للتباغض بين الأوس والخزرج وكتابته الصحيفة المشهورة التي ذكر فيها أن أهل الكتاب أمة اضافة إلى أمة المسلمين، كما تفادي المواجهة المباشرة بحفر الخندق في غزوة الأحزاب وأبرم صلح الحديبية مع اليهود وعزم على الحج دون سلاح وعقد بيعة الرضوان خارج معقله وفتح مكة دون قتال وأصدر العفو التشريعي العام عن مناوئيه وآمن من يدخل بيت أبي سفيان.
من هنا فان العنف ليس في كل الأحوال القرار الأصح والوجهة الاستراتيجية التي ينبغي أن تنخرط فيها جماعة دائما وأبدا وفي كل المواقف بل يمكن أن يكون علامة يأس وفشل وضعف وتعبير عن انسداد الآفاق ويكشف عن وجود مشكلة في تحديد العلاقة الأنسب بيننا وبين الآخر وهو يحتوي على نوع من الجنون المؤقت يسعي للتخلص من كل أشكال الرقابة وينتهي إلى تدمير الذات والاستسلام إلى الانتحار. كما ينتج الوضع العنيف تواطؤا أخلاقيا بين الجلادين والضحايا يتفقان بموجبه على تحطيم كل منهما الآخر فيخرج الانسان من كل ذلك هو الخاسر الأكبر لأن الذي يحصل عليه الانسان عن طريق العنف من انتصار وغنائم وتحرير يظل عديم القيمة ولا معني له لأنه كان على حساب ما هو أفضل منه وبالتالي لا يجوز أن نخضع قيم الحق والكرامة والعدل لسلطة الأقوي اذ ليس للضعيف من حيلة أخري يتسلح بها في كدحه من أجل البقاء سوي سلطة القانون. لكن ألا يقتضي احترام القوانين وقفة شجاعة من الضمير العالمي ووصول البشرية إلى مرحلة متقدمة من الوعي حتى يتم القضاء على الحرب والعنف؟ فكيف يتحقق الوعي بالعنف؟
3 نجاعة اللاعنف:
انه ليوجد اذن مقام من مقامات المجتمع هو عنيف بمثل ماهو باق على عنفه بحكم الأصل وبحكم العرق فيه ينتصر الكلام على العنف (4)
يقارن البعض بين طهرية العنف البنائي ونجاعة اللاعنف الدائمة رغم أن المقارنة هنا لا تجوز لأن العنف بجميع أشكاله مدان واللاعنف في سحره ووداعته وهيبته أمر مقدس ويحظى بالاحترام والتبجيل، فعندما نتذكر الرسول محمد (ص) أو غاندي أو نيلسن مانديلا أو الأم تيريزا أو الشيخ ياسين نجلهم ونستحسن أفعالهم ونعتبرهم شموعا أنارت ولا زالت تضيء للبشرية الدرب نحو الحرية والخلاص والمحبة. اللافت للنظر أن اللاعنف لن يكون فاعلا ولن يسطع نجمه الا اذا خرج من دائرة الفرد إلى دائرة الجماعة وانتقل اشعاعه من مجال الأخلاق إلى مجال السياسة ولن يكون ناجعا الا اذا تحول إلى فعل مؤثر في حركة التاريخ، اذ يكفي أن يرفض أحدهم الانصياع في صمت أو أن يقول لا بطريقة لائقة حتى يدشن مرحلة اللاعودة مع المرحلة القديمة وحتي ينحت بموقفه الهادئ الرصين صفحة بيضاء ناصعة من تاريخ أمته المجيد، ألم يرفض القس تيتو العنصرية ووقف فلاسفة ألمانيا ضد النازية ودفع ياسر عرفات حياته ثمن معاندته للمشروع الصهيوني رافعا شعار غصن الزيتون؟ ان اللاعنف لن يكون له معني الا اذا تعالي المبشرون به على زبالة ايديولوجيات التاريخ الوضيعة وولوا وجوههم شطر نداء الأقاصي ونادوا برسالة الطير المهاجر الذي لا يميز بين أرض وأرض وبين دين ودين وبين بلد وبلد فكانت كل قلوب الناس جنسيته وكل الأوطان وطنه وكل المقدسات قبلته.
هكذا يمكن أن يكون اللاعنف استراتيجية المعارضة في الداخل وحتى المقاومة مع الخارج شرط أن يجمع بين الحشود والفئات والطوائف ولا يفرق إلى ملل ومذاهب وأعراق وذلك عندما يحقق غايات الوطن ومقاصد الدين ومصالح الناس وأهداف الحضارة ويفتح للبشرية عصرا من التقدم والرقي ويمكن أن يكون حضور الانسان المسالم في التاريخ حضورا فعالا شرط أن يوحد في بنية شخصيته بين القول والفكر والفعل. انظروا كيف كانت الانتفاضتان الأولى والثانية حركة غير عنيفة سلمية هادئة وجسدت ملحمة خالدة بالمعني التام لكلمة ملحمة وانظروا أيضا كيف شاركت فيها النسوة والأطفال والمثقفون والشيوخ وما أحرزته من تعاطف ومؤازرة وتأييد من كل شعوب العالم ومحبي الخير والعدل، وانظروا في المقابل كيف تحولت حركات المقاومة إلى أجنحة مسلحة تتصادم على السلطة وتلوذ بالمرجعيات الرجعية لتصلح بينها وتتدخل لها حتى يرضي عنها أعداؤها وتسمي ذلك اعتدالا ومرونة وتأقلما مع النظام الدولي الجديد، فكيف للسلم أن يؤدي إلى التمسك بحق العودة ويبشر بالحفاظ على القدس والأرض مغتصبة والثوابت مسقطة من طاولة المفاوضات؟وكيف بالسلاح أن يؤدي إلى التفريط والهرولة والتعديل وتبرير الاقتتال الداخلي والتكالب على سلطة مفقودة على أرض الواقع والتفريط في سيادة مداسة بأقدام الغرب الطامع والنظام العربي المنتفع؟
شعار اللاعنف هو لا تقتل ومبدؤه هو أحب لغيرك ما تحب لنفسك وانشد حرية الآخرين في اللحظة التي تنشد فيها حريتك ومجاله هو مجال الكلام والخطاب، ونحن نعلم أن من الكلام يوجد القول الحسام ومن يملك سلطة الخطاب يملك الشكل الأقصى للسلطة. فهو فعل لغوي بامتياز وحركة كلامية أو لنقل حركة نبيلة، مبادرة فردية يمكن أن تتحول إلى قانون أخلاقي وأصل ديني وقاعدة فقهية ومبدأ فلسفي تحقن الدماء وتطهر التاريخ من الدنس والوجه الدموي المظلم وتزكي النفوس وتصلح الأفعال، أليس المسلم الحقيقي هو من سلم الناس من لسانه ويده كما يوصي بذلك نبي البشرية محمد (ص).
خاتمة:
لا أريد فصل هذه التجارب المنفردة لحكمة الصراع الأخلاقي والسياسي ضد الشر الذي يستطيع تجميع كل الناس ذوي الارادة الطيبة. بالنسبة لهذا الصراع، فان هذه التجارب مثل أفعال المقاومة غير العنيفة، هي استباقات بشكل رموز حكمية للوضع الانساني حيث، مع اختفاء العنف، يصبح لغز التألم الحقيقي، التألم غير القابل للاختزال، عاريا (5).
اللاعنف رسالة أخلاقية نبيلة تعلم الانسان وتخرجه من غفلته إلى اليقظة ومن جحوده إلى الشهود وهو مطلوب في الحالة الداخلية لتجاوز حالة الفتنة بين المذاهب والأحزاب وبين الأنظمة والشعوب وايقاف حمي الحرب الأهلية المدنية والعسكرية الجالبة للويلات والمنذرة بالشؤم على حضارة اقرأ، وهو أمر متروك إلى القوي الغازية والمحتلة في الحالة الخارجية فان أرادت السلم والتعايش وتخاصب الحضارات وحوار الأديان فيا حبذا وكفانا حروبا وقتالا ودمارا وان لم ترد فذلك أمر آخر واللجوء إلى المقاومة المسلحة يصبح عندئذ أمرا مكروها ولكنه مشروع وواجب في ظل عودة الاستعمار واستفحال الاستيطان. لكن عوض أن تتنافس الدول الفقيرة المنتمية لدائرة الضاد على التسلح وعلي امتلاك الطائرات والدبابات والصواريخ والبوارج والغواصات فلتتنافس على اقتناء الغذاء وتوفير الماء وصنع الدواء وتجهيز المساكن وايجاد فرص الشغل للعاطلين ولتعمل على حلحلة مشكل الهجرة والجريمة المنظمة والكوارث البيئية والمجاعات.
أملنا أن ينجح صلح مكة ما أفسده اقتتال غزة والضفة وأن يعود الرشد إلى كل الفرقاء في العراق ولبنان وكافة أرجاء حضارة اقرأ من أجل أن تتحقق المصالحة والصفح وأن تتضافر الجهود من أجل التنمية والتحرير عن طريق السلم واللاعنف نهجا وعن طريق القوة والكفاح كرها.
بيد أن ما نتخوف منه أن يكون التبشير باللاعنف كقيمة والمسالمة كمقام للوجود في العالم تكريسا للاستسلام ودعوة للتطبيع والانبطاح للثقافة الغازية والمشاريع المعادية، فكيف يكون تبني اللاعنف خيارا استراتيجيا لتعزيز حركة المقاومة والصمود وليس علامة انهزام وتقهقر؟ وكيف نجعل السلام والسلم والصفح والسماحة أفكارا توجيهية تعبر عن جوهر الاسلام عوض السيف والقتال والتكفير؟ ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر حتى يكون اللاعنف شيئا مغايرا للفعل الارتكاسي السلبي وبعيدا عن الدرجة الصفر من الفعل معروضة على هامش التاريخ؟
*كاتب فلسفي من المغرب
(1) بول ريكور الحقيقة والتاريخ طبعة سوي باريس 1955ص235
(2) بول ريكور الحقيقة والتاريخ طبعة سوي باريس 1955ص239
(3) بول ريكور الحقيقة والتاريخ طبعة سوي باريس 1955ص256
(4) بول ريكور العادل الجزء الأول تعريب بيت الحكمة قرطاج 2003 ص11
(5) بول ريكور فلسفة الارادة الانسان الخطاء ترجمة عدنان نجيب الدين المركز الثقافي العربي بيروت 2003 ص246


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.