منذ ما يزيد عن ثمانية عشر عاما والصومال بمثابة حقل تجارب لكثير من العابثين بأمنه واستقراره ، تعرض لاستباحة دماء أهله وأعراضهم سواء على يد القوات الأمريكية أو الأثيوبية ، كما عانى من صراعات وبلطجة ما عرف ب "أمراء الحرب" وبعض الزعامات القبلية ومحترفي السياسة الذين هم أشبه ما يكونون برجال حرب العصابات، وما زال شلال الدماء حتى الآن متدفقا ومسلسل التدخل الخارجي متواصلا بصور أخرى، تعكس أوضاعا أكثر خطورة. إن الفصل الجديد من دورة الاقتتال وتدهور الأوضاع الأمنية التي تشهدها الصومال حاليا بسبب تناحر وتخوين وتكفير حلفاء الأمس الذين كانت تظلهم مظلة المحاكم الإسلامية، بينما يقفون في ساحة مواجهة كل منهم تجاه الآخر اليوم، في رأينا هو الأخطر لأسباب كثيرة : لأنه يقضي على آخر بارقة أمل لدى الشعب الصومالي بالخلاص من وضعه الممزق المنهك بعد أن اكتوى بلظى الحروب الأهلية والعصبيات القبلية، وشتتته رياح التشرد والنزوح وطحنه الفقر والبطالة . لقد أحس الصوماليون بنعمة الأمن والاستقرار في ظل المحاكم الإسلامية منذ عام 2004 ، وكانت ظهيرا لهم في مواجهة فساد وظلم أمراء الحرب، أما الآن فإن حلفاء الأمس الذين بسطوا الأمن في البلاد هم من يعبثون بهذه الورقة ويتركونها نهبا لمطامع البعيد والقريب بسبب المصالح والطموحات والاجتهادات الخاصة التي تقدم على المصالح الوطنية العليا لشعبهم وأمتهم . في المرات السابقة كان التدخل (الاحتلال) الأمريكي وكذلك الأثيوبي في الصومال يتم بدون طلب من أهل البلاد أو بدون غطاء قانوني وشرعي، أما اليوم فإن من قاتل القوات الأثيوبية باعتبارها قوات غازية وغير شرعية هو نفسه من يطلب ويرحب بتدخل دول الجوار ( الرئيس الصومالي الحالي شيخ شريف شيخ أحمد)، ويعرف ضمنا أن أي تدخل من هذا النوع لن يتم بدون رضا أو معرفة الإدارة الأمريكية، أو بمعزل عن تحقيق مصالحها. ويضاف إلى ذلك أنه في عهده تطلب الحكومة الصومالية من الإدارة الأمريكية بإرسال أسلحة وذخائر لمحاربة الإسلاميين المناوئين كما أشار إلى ذلك المتحدث باسم الخارجية في الولاياتالمتحدة . ولأنه لا قيم أخلاقية تضبط سياسة الولاياتالمتحدة في تعاملها مع الدول العربية والإسلامية، كما هو معروف، فإن مثل هذا الدعم سبق أن قدمته الإدارات الأمريكية السابقة لأمراء الحرب ضد الإسلاميين، وهي الآن تقدمه لنصرة فصيل إسلامي على آخر، وفي كل مرة من تدخلها اللاأخلاقي تفتح نوافذ لفتن داخلية جديدة غير عابئة بآثاره التي سيخلفها لأنها تتعامل مع مقدرات الشعب الصومالي بالوكالة أو عن بعد كحقل تجارب كما يتم التعامل مع فئران المختبرات التعليمية. تقدم صورة سلبية قاتمة عن المجاهدين وقوى المقاومة وخصوصا الإسلاميين التي تتوحد إلى حد كبير وهي تذود عن أوطانها ضد المحتل والغزاة، ولكنها سرعان ما تختلف وتفرق وتقتتل عندما تتعرض إلى عرض من حطام الدنيا الفانية وتصل إلى سدة الحكم، ومثل هذه الحالة شهدناها من قبل كما في الحالة الأفغانية. لقد التف عدد من السياسيين والقادة العسكريين الصوماليين السابقين حول المحاكم الإسلامية نظرا لسمعتها الطيبة ودورها الوطني في إعادة الأمن والسكينة للبلاد، بعد أن أسقطها الاحتلال الأثيوبي عام 2006 ليكوّنوا معا إطارا جامعا يرفع راية تحرير الصومال من هذا الاحتلال أطلق عليه ( تحالف إعادة تحرير الصومال)، ثم تكلل ذلك بانتخاب الشيخ شريف رئيسا للجمهورية مطلع العام الجاري، لكن هذه الصورة اختلفت بكل تأكيد بسبب المستجدات الأخيرة. وإذا كان السلوك الأمريكي الغربي، والأثيوبي غير مستغربين بحجة مكافحة الإرهاب، أو المطامع التي تغلفها خلفيات عقدية واستراتجيات توسعية جيو سياسية، فإن المستهجن أن تؤول الأوضاع في الصومال إلى ما آلت إليه مؤخرا، ولعل المسؤول عن هذه الأوضاع ثلاث جهات رئيسة، الأولى: الجهات المكونة لمنظومة الحكم في الصومال بقيادة الشيخ شريف، والمعارضين له وفي مقدمتهم الحزب الإسلامي وحركة الشباب المجاهد وهي الأهم ،بحكم عدم قدرتهم على إدارة الاختلاف، وعدم تقديم مصالح دولتهم وأمتهم على مصالح تكويناتهم الحزبية والفصائلية، وترتيب منظومة الأولويات شرعا ووطنية، مما أعطى المسوغات لكل الشرور التي تلت ذلك، من سفك للدماء، والدعوة لدخول قوات الأجنبي وليس إعطاء الشرعية لهذه العملية فقط. وفي مثل هذه الحالات تكون المسؤولية الأولى على أصحاب الشأن لأنهم الخصم والحكم بآن معا، وبيدهم قبل غيرهم الحل طالما توفرت النية والعزيمة الصادقتان، فكما يقول المثل " ما حك جلدك مثل ظفرك" ، وبغير ذلك تبوء كل محاولات الصلح والتوفيق بالفشل في الأغلب. الجهة الثانية: الأنظمة العربية التي لم تبذل جهدا حقيقيا لإخراج الصومال من محنتها وإعادة الاستقرار لها، أو التوفيق بين مكوناتها الحزبية والقبلية لإعادة حكمها المركزي المسلوب، رغم موقعها الاستراتيجي وأهميتها للأمن القومي العربي، وكأنها ليست عضوا في الجامعة العربية..، كما حدث ويحدث للتوفيق بين الفلسطينيين من قبل المملكة العربية السعودية ومصر، على الأقل ، بل تركتها تواجه مصير حربها الداخلية وتدخل القريب والبعيد في شأنها، وأكثر من ذلك أعان بعضها البعيد عليها وأيد تدخله كما حدث في التدخل الأثيوبي عام 2006. صورة مطابقة لما حدث ويحدث في العراق، مع عدم إخفاء هذه الأنظمة الانزعاج لتغلغل دول أخرى كإيران بسبب الفراغ الذي تركته ، وعدم نصرتها لأشقائها في النسب والجوار. الجهة الثالثة : العلماء والمرجعيات الإسلامية ، فطالما أن توجه الإخوة المتشاكسين هو توجه إسلامي فكنا نتمنى أن تقوم جهات إسلامية معتبره بمثل هذا الجهد لحل الخلاف القائم حفاظا على وحدة البلاد والعباد. جرت محاولة مقدرة من هذا القبيل من قبل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يترأسه فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي وذهب وفد منه للصومال، ولكن على ما يبدو لم تحظ بالمتابعة الكافية، بالنظر إلى حجم الخلاف المستحكم . ما يجب قوله أن على الجهات الثلاث تحمل مسؤولياتها الأخلاقية والقومية والإسلامية تجاه مشكلة مزمنة لبلد يحيط بشبه جزيرة العرب قبل أن تخرج الأمور عن نطاق السيطرة والتحكم وإلى غير رجعة، وعندها لن ينفع الندم، والتجارب القريبة والبعيدة فيها ما يكفي من العبر.