بعد رحلة علاجية ناجحة عاد إلى وطنه د.عبدالعزيز المقالح وشعبه الفنان الكبير الأستاذ أيوب طارش عبسي. وكان صوته العذب الجميل قد وصلني عبر الهاتف من برلين قبل شهرين تقريباً؛ مؤكداً تماثله للشفاء، وإيمانه المطلق بأن ما يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا. ولا أخفي أن هذا الفنان الأصيل كان حاضراً معي، ومع الملايين من مواطنيه منذ بدأت وسائل الإعلام تتناقل أنباء مرضه، ولم يكن ذلك بغريب تجاه فنان سكنت ألحانه المشاعر، وباتت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تخفف من جفافها، وتفتح في جدرانها الثقيلة نوافذ للبهجة والأمل، والشعور بأن الوطن ليس جبالاً وأحجاراً ودكاكين وسيارات وعمارات، وإنما هو فن وشعر وموسيقى أيضاً. وإذا كان مرض الفنان الكبير، وتعثر سفره للعلاج خارج الوطن قد أثار الكثير والكثير من التساؤلات حول أوضاع الفنانين في بلادنا، وما يتعرض له كبارهم، قبل صغارهم، من ضيق ذات اليد، وعدم تمكنهم من السفر خارج الوطن تلبية للضرورات القصوى، أقول إذا كانت تلك التساؤلات قد ثارت في أثناء مرضه وقبل سفره، فإن عودته ينبغي أن تثير لي، وربما لكثير من عشاق الفن والإبداع أكثر من سؤال تجاه ما يعانيه المبدعون في بلادنا، وخاصة الكبار منهم وذوي الحضور الشعبي من إملاق، ومن مستوى معيشة متدنية لا تؤهلهم للسفر في إجازة للترويح عن النفس أو تلقِّي العلاج، واضطرار بعضهم إلى إخفاء مرضه حفاظاً على كرامته، وترفعاً عن تسول تكاليف العلاج . إنني هنا، لا ألوم الدولة التي من واجبها توفير العلاج لكل المواطنين دون استثناء، لكني ألوم شعبنا العظيم، ألوم الملايين الذين لا يقدّرون الفن ولا يشجعون الإبداع، ألوم الأثرياء الذين لا يشترون لوحة من معرض، ولا يرتقي ذوقهم الفني؛ بالقدر الذي ترتقي فيه أرصدتهم المالية، وهو ما أجده يحدث في أقطار عربية أفقر من قطرنا، ومع ذلك يتمتع فيها الفنانون والمبدعون بمستوى معيشة خيالي. ولن أتحدث عن الفنانين في الخليج أو في مصر العربية، حيث يمتلك عدد من الفنانين طائرات خاصة، يتحركون بها خارج أقطارهم، في حين لا يمتلك فناننا الكبير أيوب طارش الذي هدهد المشاعر وأطرب القلوب قيمة تذاكر سفر للعلاج، بعد خمسين عاماً من الإخلاص للفن، ولا رصيد له بعد هذه الإنجازات الفنية الرائعة سوى الإعجاب ومحبة الناس. لكن ما قيمة الحب والإعجاب وحدهما، بعد هذه الرحلة الطويلة مع الفن وما رافقها من صعوبات! إنني حزين، بل أنا في غاية الحزن لأن سبعة وأربعين عاماً من عمر الثورة لم تتجسد فيها ثقافة موسيقية ولا مسرحية، ولم تخرج بالمواطنين من زمن البرع والزامل، مع احترامي لهذين الفنين التاريخيين، وحرصي على استمرارهما، ولكن بالتزامن مع الفنون الحديثة، لكي نشعر أننا التحقنا بالعصر، ولم نعد نراقبه من بعيد. وأعود لكي أتساءل: هل السر الدائم يكمن في طبيعة الشعب أم في الظروف التي جعلت الناس يتراكضون وراء أضواء السياسة وبريقها الخادع، وينسون أن إشباع العواطف والعقول لا تقل أهمية عن إشباع الأجساد والبطون، وأن الأمم لا ترقى بالعمارات الشاهقة والأسواق المكتظة بالسلع المستوردة، وإنما ترقى بالإنتاج وبالأعمال الإبداعية المشرقة الخلاقة. وماذا يكون الغرب كله والشرق كله لولا الفنون والآداب التي ترافق أو بالأحرى تتزامن مع الصناعة والاقتصاد، ومع السياسة أيضاً لتصنع هذا البذخ الروحي والمادي اللذين ابتعدت بهما الشعوب كثيراً عن عصور الديناصورات والماموث. الأستاذ عبدالرحمن مراد في كتابه الجديد. صورة الوطن في المنتج الشعري اليمني: الأستاذ عبدالرحمن مراد شاعر متميز. وناقد متميز أيضاً، وفي كتابه الجديد قراءة نقدية متطورة لمجموعة من الدواوين الشعرية التي تعكس صورة الوطن وهمومه وأحلامه ليس من اليوم وإنما منذ بدأت القصيدة في بلادنا تأخذ هذا المنحى وفي المقدمة شاعر اليمن الكبير ورمز وطنيتها البارز الشهيد الأستاذ محمد محمود الزبيري. الكتاب من إصدارات مركز عبادي للدراسات والنشر ويقع في 214 صفحة من القطع المتوسط. تأملات شعرية : الصورةُ ما زالت داكنةً غبراءْ. وصوت الإبداع غريبٌ مصلوبٌ فوق جدار الأزمات الصفراءْ. يا وطناً سكن القلبَ وأبحر في الدم ألا يكفيك حروبٌ داميةٌ