كشيطان متمردٍ، انبثق من جبهة إلهٍ عجوز، في معبدٍ متهالك.. انفلت "أنسي الحاج" في الثقافة العربية ليدمر ويهدم ويجن ويرفض.. يلعن كل شيء، ويثور على كل شيء: الشعر والشاعر والقارئ والناقد والشكل والمضمون الشعري.. والثقافة العدمية التي أنتجت كل هذا الركام.. (أول الواجبات التدمير.. التخريب حيويٌ ومقدس): يقول، رافضا الاجترار البليد أو الترميم الشكلي، أو الترقيع.. لا أقل من أسسٍ جديدة لبناء مختلف. بعيدا عن الثبات، والتداول السلبي للثورة والسلطة والشرعية.. في ظل السلطة الكلاسيكية لم يجرؤ كاتب قصيدة ( النظم الطليق) المنشورة في جريدة العراق عام 1921م، على إرفاق اسمه الحقيقي بقصيدته التي هي بالمناسبة أقدم ما نعرفه من قصائد التفعيلة، ورمز لنفسه بالحرفين (ب. ن)، لإدراكه سلفاً بخطورة ردود أفعال السلطة والذائقة الكلاسيكية إزاء بدعته، حسب تعليل "نازك الملائكة" التي نعرفها جميعا، ولا نعرف من هو(ب. ن) البطل المجهول في طليعة الشعر الحر في الشعر العربي! من سخرية القدر أن الشعر الحر، وبعد أن انتزع بصعوبة بالغة شرعيته الشعرية، وفرض نفسه على النظرية والممارسة الشعرية العربية، صار له، بدوره، وصاته وسلطته الأكثر تزمتا من سابقاتها.! رفضت "نازك الملائكة" حتى مجرد كتابة كلمة(شعر)على غلاف ديوان(حزن في ضوء القمر) للماغوط، لأنه حسب رأيها نثرٌ لا علاقة له بالشعر، ولاحقا أضاف الناقد " عبد العزيز نبوي":(.. لن يجعله سيف الحداثة شعرا بحال!). أرأيتم؟! هكذا يصبح للثورة والحداثة سلطة وشرعية وأوصياء وسيوف وجلادون..! على هذا المحك تبرز عظمة ثورة "أنسي الحاج" وزملائه، لأنهم ثاروا على السلطة، وعلى فكرة أن يكون للثورة سلطة، وعلى فكرة الشرعية نفسها.. الثائر الكبير لا يهرب من القوالب الجاهزة، ليجهز قوالب أخرى. عاش طويلاً (1937: 2014م) يجابه كل القيود، وبلا هوادة، وها قد رحل، لكن بعد أن دمّر معبد المقدسات السلطوية والثورية، التراثية والمستحدثة، وسلك طرقاً غير مطروقة، وعبّدها لحداثة لا يمكن الحديث عنها دون المرور باسمه المحفور عميقا في قلب وذاكرة التحولات. مقدمته لديوانه (لن) "1960م"، تكفي لجعله رقما مهماً في تاريخ الشعر والنقد العربي المعاصر، إنها أحد أهم بيانات ثورة الكتابة التي لم تبدأ بقصيدة النثر، و(لن) تتوقف عندها. هذا الرجل لا يعرف التوقف والحدود والقناعة والجمود.. أتصوره الآن يثور على تابوته، ويطالب بتغيير أكفانه التي باتت بالية.!