دجاج وأغنام، وعجوز تستريح في "صرحة المنزل" وأطفال يلهون بالتراب، ونساء يجتمعن في بيت زوجة "الحاج" الذي قدم البارحة من السعودية، ورجال "مقيلون" تحت شجرة كثة الأغصان، والموسم ربيع.... إنه المشهد الذي يتبادر الى ذهني اليوم، يجسد آخر زيارة لي الى القوز المهجرة. خوت البلدة من سكانها، هاجر الجميع وهجروا، وظلت القرية لا تنام ولا تقبل الأحياء، حشا الغزاة ترابها بالألغام، ونبهوا كل ما نساه أهلها يوم أن تركوها مكرهين لا خيار في أيديهم.
كرم أهل تلك القرية يغور حتى يغطس جوف الأرض، يضيفونك كل ما ينالونه من خير إن زرتهم يوماً، كرماء متوجون بالشهامة، وطمحوا خلال سنوات أربع مضت أن يبنوا دور جديدة، ويبدؤون مطاردة الفقر الذي تربع عليهم لأمد مضى ظالماً وكافرا، لكنهم لم يكملوا مشوار الحلم الذي كان يدغدغ صدورهم، وجاءت ثلة ممن لا يعفون قدراً من الانسانة فاختطفوا كل شيء.. كل شيء يارب.
ظلمت القوز كثيراً، من خانها؟.. لا ندري ولا نظن!، لماذا أحبها الأعداء وتمسكوا بها؟.. لأنها سخية حتى وهي خاوية من نبض الحياة وصوت أدياك الفجر، بلدةٌ لا أكرم منها الا خالق أهلها وأشجارها، وبهائمها... ولهذا يعض أعداؤها على جدرانها بالنواجذ ويرفضون تركها لأهلها حتى يبارحون خيم النزوح ويعودوا مسقط رؤوسهم، وكل يوم يضعون بكل مواطئ قدم لغم ليقتل أي حي تحط قدمه عليه عندما يشاء الله لأهلها العودة..
لي لهفة لا تغادري صدري، أرغب بالعودة، اريد الوقوف على تلك الأطلال وقد عادت اليها الحياة وشيدت من جديد، وانجلى عنها الخوف والخراب، مشتاق للشرب من جرة السبيل، المعلقة على شجرة سدر عزباء في "المشابك"، وتشغفني الأمنيات للجلوس مع "بليغ الصغير" على عتبة منزلهم من جديد ونحكي المرعى وخطوبته القادمة، وفي خُلجي حلم بسماع "نكتة" يسردها محمد راشد عن العجوز الذي تشاغب معه في عدن وهو يبيع الجرائد ذات صباح، يحكيها لنا برفقة الرفاق على باحة "المهلل"..
تستوقفني الف دمعة تحتشد في الأحداق، لكنهم قالوا لنا ذات مرة (الرجال لا تبكي) وإننا لنستوحش أهلنا هناك فنبكي دماً ينشرخ منه القلب، لا دمعاً كما منعونا يومها... جنتنا القوز في الأشروح كلها، لم نستردها ولم نعد اليها، فكيف نصمت، سنبكي حتى تسكننا الراحة ونرضي بما كُتب علينا، ولن نرفع الرايات البيض، والصبح قريب وسيشرق النصر..
كيف أنتم يا أهل القوز الكريمة، اين تسكنون اليوم؟، كيف هم أطفالكم؟، ارجعوا مجدداً قبل أن يكتب الله قدرنا الأخير، سنتزاور في دوركم، وسنشرب الماء من جرة المشابك، سنتقايل عندنا وعندكم، وسنزور بليغ، ونسمع نكتة محمد، ونشطب بيت جمال، ونسلم على الحجة (ن.س.ر) يوم عيد أضحى... ولن يطول بحول الله ما حل بكم، وعودتكم لها أجلٌ قريب... #لهبٌ يتقد في الأحشاء #عمر الشارحي