تحدثنا في الحلقات السابقة من هذا المقال وقلنا بأن المحاكم تمر بأسوأ مرحلة في تاريخها ،حيث نجد بين الفينة والأخرى من يترحم على تاريخ القضاء إبان الحكم السلاطيني حيث كان اختيار القضاة يتم وفق معايير ومقاييس دقيقة ، فشهدت تلك المرحلة طفرة نوعية بوجود كوكبة من قضاة أكفاء لم تتلوث سمعتهم وكانوا من الزاهدين . وحين نذُكر القضاء في حضرموت .. تبرز أمامنا أسماء لامعة في سماء العدالة نذكر منهم عائلات توارثت القضاء مثل بامخرمه ، وباجنيد، والحداد ،والشاطري ، والعماري ، والكثيري ، وبامطرف ، وآل الحامد، وآل بارجاء ، وآل برعية ، وآل باشكيل ،وآل بونمي ، وآل مديحج ، وهناك من لا يحضرني أسمها في هذه العجالة ،تلك العائلات ، هي من كانت حجر الأساس في تطوير القضاء وتعزيز سيادة القانون وتأكيد هيبة المحاكم ، ويأتي في مقدمة هذه الهامات الشامخة القاضي العلامة: عبدالله بن عوض بكير رحمه الله تعالى ، ولعله من الواجب بل الإنصاف تخليد ذكراهم كرد اعتبار لمكانتهم في المجتمع .. ولكن يبدو أننا في زمن يجحد مبدعيه ويتناسى عطاءهم بمجرد رحيلهم عن هذه الدار الفانية .. هؤلاء الرجال العِظام الذين تركوا بصماتهم ولم يبخلوا بجهدهم من أجل مجتمعهم، سيظلون خالدين في ذاكرة التاريخ وسنظل أوفياء لهم مهما جحدهم الجاحدون . لم آت هنا لفتح ملفات القضايا في المحاكم ، تلك مهمة تحتاج إلى دراسة شاملة من الباحثين ، وفي حقيقة الأمر أن هناك أكواما من تلك القضايا قضى أصحابها نحبهم وانتقلوا إلى رفيقهم الأعلى ،دون أن ينالوا حقوقهم التي كانوا يلهثون وراءها في أثناء حياتهم ولم يسعفهم العمر في إنجازها .. ولا نجافي الحقيقة والواقع إذا قلنا : بأن الخلل يكمن في المنظومة العامة مما عكس نفسه سلباً على الواقع القضائي ، ومع ذلك لسنا في وارد توجيه الاتهام لأحد فلكل واحد منا ضمير يحكمه ويجعل منه مرآة يرى من خلالها عيوبه ، كما نرفض في الوقت ذاته إصدار أحكام جاهزة في مثل هكذا مسائل حساسة ، لاسيما أن البعض يوجه اتهاما صريحاً إلى بعض قضاتنا على أنهم قد خالفوا قواعد مهنتهم وآدابها وهم بذلك لا يقيمون للحق وزناً ،لا يمنعهم وازع من دين ولا رادع من عقل ، ولعل هناك من القائلين أن بعض القضاة استمرؤوا الكسب غير المشروع الذي يتم بطرق وأساليب شتى ..حيث تم فرزهم إلى أنواع: نوع يعتمد على سماسرة في تسيير أموره، ونوع آخر يخلق علاقات مع محامين وضعوا ضمائرهم في ثلاجة الموتى ، وبعضهم الآخر يركن إلى أمين سره كحلقة وصل بينه وبين المتقاضي .. ربما يكون ذلك مجرد افتراض عام قد يُصدق وقد لا يُصدق ما لم يتم ضبط هذا القاضي بالجرم المشهود ، ولكن هيهات أن يتأتى ذلك ، لكونه من باب المحال الذي يتعذر تحققه ، صحيح أن الحكايات التي تتناهى إلى أسماعنا كثيرة جداً ، ولكنها تظل ناقصة المصداقية ما لم يدعمها السند القانوني الدامغ . ومثلما يوجد الطالح من قضاة اليوم ، يوجد الصالح الذي يعاني من هضم حقوقه وإهدار مكانته القانونية في إهمال متعمد لقدراته ، حيث يحاول البعض من النافذين الإقلال من شأنه بل محاولة تهميشه لأنه رفض الابتزاز والمساومة ، والتوجيهات التي تخالف سير إجراءاته.. بل قد تعرضه مواقفه التصادمية أحياناً لعواقب وخيمة اللقاء هذه المرة مع القاضي شاكر محفوظ بنش – (أبا محمد) قلت له : لنلج في صلب الأسئلة مباشرة أيها القاضي العزيز؟ حتى لا أستقطع من وقتك الثمين الكثير. فرد بكل تهذب ووقار : على الرحب والسعة أستاذ علي ، إنني جاهزٌ لما ستطرحه من أسئلة : قلت له : لعلك قرأت تلك المقدمة بأعلاه وفيها أحاديث الناس التي لم تأت من فراغ ، تماشياً مع المثل الحضرمي الذي يقول " ما ينط عود إلا من حصاة "هل وصلتكم مثل هذه الأقاويل ؟ ( إن ألسن الناس حصائد الحق وما يتردد على ألسنتهم من أحاديث عن القضاء والقضاة كما هو مبين في سؤالك فهو مؤشر إن لم يكن انطباعاً بأن القضاء وصل إلى حالة من التردي والتراجع والضعف في الأداء وحينما يكون الحال كذلك تظهر تلك الخدوش والنتؤآت ليوهن جسم القضاء برمته ، ولا يمكنني بأي حال من الأحوال أن استبعد بعض مما يقال عن القضاء حالياً فالناس ألسنتهم حصائد ، والخبير من يلتقطها ويزنها ثم يعمل على هدم ما هو خرِب في بنيان القضاء وإصلاح ما يمكن إصلاحه لأن القضاء هو ملاذ الناس جميعا في نزاعاتهم وخصوماتهم فإن كان هو صالح صلح شأن البلاد والعباد .) س ) موقعكم أيها القاضي من المواقع المهمة ومسئولياتكم الأخلاقية تضعكم في مواجهة حقيقية لمحاربة الفساد والرشوة .. ما هي الوسائل التي يمكنكم اتباعها في مثل هذه الحالة ؟ وهل ستؤتي ثمارها إذا قمتم بذلك ؟ ( محاربة الفساد ومواطنه وأشكاله هي مسئولية الجميع وبدرجة أساسية مسئولية الدولة وأجهزتها الرقابية ، والفساد وصل إلى درجة خطيرة وطال كل سلطات الدولة وبحسب معايير ومقاييس الفساد فإن الدولة اليمنية معدل الفساد فيها مرتفع عالميا ، والسلطة القضائية هي أحد سلطات الدولة الثلاث يعتريها ذلك المرض ولكن غياب الرقابة والمحاسبة الجدية مع ضعف الوازع الديني والأخلاقي جعل الفساد بأشكاله يستشري ، وهناك في السلطة القضائية هيئة تفتيش قضائي والأصل أن أولوية مهامها هو محاربة الفساد في سلطة القضاء ويقع على عاتقها مسئولية مواجهة ومحاربة الفساد في القضاء .) س) هيئة التفتيش القضائي .. هل طابعها مركزي وما دورها الحقيقي بموجب القانون وما مدى فاعليتها ؟ (السلطة القضائية فيها هيئة تسمى " هيئة التفتيش القضائي " وهي مركزية بكل تأكيد ، ويتمثل دورها في التفتيش الدوري والمفاجئ على السادة القضاة أكانوا قضاة محاكم أو أعضاء النيابة العامة وتقوم بأعمال التقييم لأعمال القاضي المُفتش عليه وتحديد مستواه من خلالها وأيضاً من خلال ما يرفع من تقارير سرية على القاضي المفتش عليه من مرؤوسيه ، مع غياب دور هيئة التفتيش القضائي في المتابعة والتمحيص الدقيق في سلوك القاضي من خلال بحث أو استبيان اجتماعي دوري لمعرفة سلوكه في العمل وخارجه ومن هنا تكمن أهمية أو عدم أهمية هيئة التفتيش القضائي .. وأنا أرى بأن تلك أساليب بدائية ولا تتواكب مع تطورات الحياة العملية لأن ما يبرز في الواقع العملي تزايد الفساد في منظومة القضاء ناهيك من أن أعمال التفتيش لا تنتهي بنتيجة مبدأ الثواب والعقاب لأن ما يظهر فيما بعد من أن التقارير السرية والمزاجية الشخصية والانتماء السياسي أو الجغرافي هو الذي يسري العمل به وإن تم الالتفات إلى أعمال التفتيش الدوري أو الفجائي يكون بالتزامن مع التقييم السياسي أو الجغرافي والمزاج الشخصي على القاضي المفتش عليه وهذا ما لحظناه طيلة الجولات التفتيشية في حصول التمييز والتهميش وهضم الحقوق بالنسبة للقضاة أكانوا قضاة محاكم أو أعضاء النيابة العامة من الجنوبيين ، وتخيل معي أن محافظة حضرموت بحضارتها ومنارتها العلمية والتعليمية وتاريخها الرائد في القضاء يستورد لها من خارجها عدد من القضاة لمحاكمها ونياباتها المختلفة .. كل المنظومة القضائية بحاجة إلى (تنخيل) كما يقولون مالم فإن القضاء ككل سيزداد حاله من سيئ إلى أسوأ .) س ) ما مدى صحة قيام قضاة بالفصل في نزاعات منظورة أمام محاكمهم في جلسات قات ؟ ( لا أظن أن هذا يحدث في حضرموت ، ولم يتبادر إلى علمي بأن أحد من قضاتنا الأعزاء قام بالفصل في نزاع معروض أمامه في المحكمة في جلسة قات .. ومثل هذا السلوك نراه غريباً عن مجتمعنا في حضرموت وهو مستنكر ومعاب ولا يليق بالقاضي القيام به مطلقاً .) س ) هل يقتص القاضي من النافذ إذا وقع في الخطأ ؟ ولماذا تأتي نتائج القرارات القضائية غير فاعلة على أرض الواقع ؟ هل العيب في شخصية القاضي أو في النصوص القانونية التي تجرده من بعض صلاحياته ؟ وماذا عن تنفيذ الأحكام التي تصدرها المحاكم ضد الدولة ؟ هل تلقى طريقها للتنفيذ ؟ ( القاضي مكلف بالفصل فيما يعرض أمامه من نزاع وخصومة ، وكلمة ( يقتص ) كلمة ذات مفهوم شخصي إذ لا يقتص إنسان من آخر الا فيما أصابه من فعل مس شخصه ، والقاضي هنا ليس خصماً بل هو حكماً بين متخاصمين معروض نزاعهما أمامه في مجلس قضائه ولا يجوز له أن يكون خصما وحكما في ذات الوقت ، ولكن لعل أسئلتك الأخرى المتتابعة تبين مرادك من هذا السؤال .. أخي العزيز أنه حينما تغيب مؤسسات الدولة ويسيطر المتنفذون على مقاليد مؤسسات الدولة مع وجود الثغرات القانونية في القوانين الإجرائية مدنية كانت أو جنائية ومحاولة سيطرة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية وتقييد سلطانها وتسييرها ، إعلم حينها أن قرارات وأحكام القضاء تكون غير فاعله على أرض الواقع والحال أشد في القرارات والأحكام التي تكون ضد الدولة ، وإن لاقت طريقها فإنها تسير سير السلحفاء .. منظومة القضاء بحاجة إلى ترميم وصيانة تبدأ من الداخل ومن القضاة أنفسهم .) س ) ما رأيك في المنظومة العامة لنظام الدولة ؟ ولماذا أصبح المواطن غير واثق بأجهزة الضبط وبالمحاكم على حد سواء ؟ ( للإجابه على سؤالك هذا أقول ما قاله الشاعر سالم رزق الله يرحمه الله : (عوار الساعية كله من الهيراب ** وأيضا الخيس والشنذه قديمه وجب تتفاقدونه من عطب وخراب ) ، أما لماذا المواطن أصبح غير واثق بأجهزة الضبط والقضاء أرجو أن تتوجه إليه وأقصد المواطن فهو لديه الأسباب .) س ) ما صحة الأقاويل التي يرددها بعض الأشخاص بأن هناك موقوفين في السجن العام دون اتخاذ أي إجراء قانوني بشأنهم ؟ ( قد يكون ذلك صحيحا وقد يكون غير صحيح وإذا كان لدى أي شخص قائمة بأسماء مواطنين موقوفين في السجن العام دون أن يتم اتخاذ إجراء قانوني بشأنهم كما أشرت في سؤالك نأمل التقدم بأسمائهم إلى النيابة العامة لتتصرف بشأنهم وفقا للقانون .) س ) ما هو السؤال الذي كنت تنتظره مني و لم أطرحه عليك ؟ (وددت لو تسألني عن دواعي تأسيس نادي القضاة الجنوبي باعتباري الأمين العام للنادي ، ولكن ربما تريد أن تفرد لذلك لقاء خاصا .) س ) هل من كلمة أخيرة تود أن تقولها أيها القاضي العزيز ؟ ( اللقاءات التي تجريها أخي الكاتب والصحفي علي العوبثاني جهد تشكر عليه لأنه يهتم بحال القضاء وهمومه وتعثراته ، ذلك القضاء الذي كان فيما سبق في حضرموت له الاستقلالية والهيبة والكفاءة العالية وكان قضاءً رائدا في منطقة شبة الجزيرة العربية .) لملمت أوراقي ووضعتها في حقيبتي ، وأنا أهم بتوديعه ، لم أخف شعوري في تلك اللحظة وأنا أمام شخصية قضائية لها مواقف صلبة يعرفها القاصي والداني ، وقبل أن أودعه ..قلت له : رغم اللغة الدبلوماسية التي تخللت بعض إجاباتك إلا إنني سعدت بهذا اللقاء الذي أتسم بالشجاعة في الطرح الموضوعي ، وكان بحق إضاءة جديدة في التوعية القانونية التي يحتاجها المجتمع . نواصل معكم أعزائي القراء حلقات حواراتنا ولقاءاتنا مع المحامين والقضاة والجهات ذات العلاقة لمعرفة رأيهم وتلمس همومهم والمعوقات التي تعترض أعمالهم في المحاكم .. ترقبونا في الأسبوع القادم . لقراءة الأجزاء السابقة الروابط أدناه : المحاكم .. قضايا وهموم (1) المحاكم .. قضايا وهموم (2) المحاكم .. قضايا وهموم (3) المحاكم .. قضايا وهموم (4)