في المشاهد الدرامية التي تنقلها القنوات الفضائية يلاحظ المشاهد وضع اليد في دم القتيل المراق على الأرض ورفعها بوضوح أمام الكاميرا لتصويرها بإشارات معينة كالإشارة الحديثة التي ولدت مع أحداث ميدان رابعة العدوية بمصر وهي رفع أربع أصابع ملطخة بالدم، أو برفع الكف كاملا ملطخا بالدم كما يفعل شباب الحراك السلمي الجنوبي، أو برفع إصبعين فقط كما يفعل الفلسطينيون وغيرهم، وربما بغير ذلك مما له دلالات متعددة منها تفجر الصراع الذي وصل إلى حالة لا يقوم مقامها إلا الدم، أو أن الموت والاستشهاد هو الحقيقة التي يجب ألا يحاد عنها، أو الإشارة إلى قتل الأبرياء، وفي كل ذلك إشارات ميثولوجية، فقد كان العرب القدماء يغمسون أيديهم في الدم للدلالة على قوة تحالفهم وتصميمهم على النيل من عدوهم، فتسود بذلك حالة جماعية من الغضب وقوة الموقف ذلك لأن الدم يوحد أو هو عامل توحد أساسي يستدعي نبذ الخلافات الصغيرة، وهو رابط دال على وحدة القبيلة أو الحلف القبلي قديما، أو على وحدة الشعب راهنا. الدم نقش محفور في قلب الجماعة تسترجعه كشاهد على قهرها المطلق، وأجسادها المتصدعة كالجدران تنبثق بالدم كما تنبثق الأرض بالماء كلما تم صدعها، فالدم والماء قرينان.. وكان البطل العربي يموت سعيدا في سبيل دفاعه عن البئر، وكانت استعادة البئر إن أخذت منه تعني له عملا نبيلا يجب أن يموت في سبيله (اختلفت طبيعة الآبار فقط، مصادر الحياة). واللافت أن مواسم التحول والانتقال في الزمن القديم ترتبط -فيما ترتبط- بثراء الآبار وامتلائها بالماء المرتبط بتحول الزمن (الفصول) ولذلك قرن السياب بين الثورة والمطر في قصيدته الرائعة (أنشودة المطر). البئر مكان تجتمع عليه الحياة وتنمو حوله الكائنات السعيدة.. الزهور والصبايا والشباب والأمل والوعد قبل أن يجف، كما تنمو القوة والفتوة، فإذا جف غدا قبرا. البئر بهذا المعنى لاعب أساسي في الوجود العربي قديما وحديثا يكثف السعادة، كما قد يكثف الشر، ويجسد واقعا حيا وواقعا حلميا في الوقت نفسه، فهو متجذر في تاريخ الإنسان العربي ووجوده لا يكف عن إنتاج الحكايات والآمال، كما لا يكف عن إنتاج السعادة الحقيقية، وبسببه تتفاعل كثير من التشابكات الوجدانية والحياتية والحربية. وحكاية البئر الأخيرة تحكي عن قتيل مظلوم (ملأ صدره بهواء هضبته، وترك وجهه يغتسل بنسيم الفجر، لكن روحه لم تنتعش كثيرا، فثمة شيء ما ظل يقلقه، تريث قبل أن ينحدر في الأرض الممتدة أمامه، لكنه انطلق .. كانت عيناه تغيمان بين فترة وأخرى بمظاهر سلاح متشابك يبدو أمامه ، لكنه كان يمضي، يلتقط المشاهدات بيقظة وحذر.. وفي كل منعطف كان فيضان الحياة يتدفق عليه حلما جميلا.. غير أن غابة السلاح تكاثفت عليه هذه المرة لترشقه بوابل من المطر والدماء والتحول). مع اعتذارنا لرواية الطيب صالح (بندر شاه) التي أجرينا على هذا المقطع منها شيئا من التعديل..